يعنى بالسرد القصصي والروائي
سهام محجوبي/ قاصة مغربية
ليس سهلا أن تتجاهل ضعفك لتبدوَ قويا وتمسح دموعا دافئة لشخص آخر فوق خدودٍ احتقرت من حمرة الحزن، وتعطي من كل قلبك دون انتظار مقابل، وتمشي في طرقٍ بعيدة عن مدينتك الآمنة لِتحميَ غيرك من شناعة الحياة، فأن تغرسَ اللطفَ في تعاملك مع الآخرين كأنك تُحيي روحَهم التي خدشها غرور الألم. وقليل هم من يجيدون الإنصات لأنين وجع الآخر فيحاولون التخفيف عنه ولو حتى بالدعاء. وقليل هم الذين يزيدون هذا الكون فُرُوهَة بعطفهم ولِينهم، فقد أصبح الكثير يفكر في نفسه فقط بدل أن يرأف بمن حوله. وما نفع أن تكون إنسانا إذا لم تكن رحيما بمن بجوارك؟
بل إن من معالِم إنسانِيتك أن تفرح لفرح الآخرين وتحزن لِحزنهم، وتُقيم مَحفلا داخل قلبك لابتساماتهم، وتَزور مأتم جروحهم إلى أن تُدْفن داخل كِفن محكوم الإغلاق، هكذا كانت قناعتي في الحياة لكنها تغيرت.
فأنا ذات صباح بينما كنت أهيئ نفسي للسفر إلى المدينة التي أعمل بها ومغادرة بيت جدتي في البادية، إذا بي أسمع صراخ جارتنا فاطمة وهي تلطم على وجهها وتنوح:
-فقدت ابنتي الوحيدة.
اتجهت مسرعة نحوها وإذا بها تفقد الوعي وتسقط أرضا، وقد مزقت كل ملابسها، فأحضرت وشاحا وقمت بتغطيتها، وبعد أن أدخلناها أنا وزوجها إلى المنزل عرفت ما أصابها، حيث أخبرني أن ابنته سقطت في البئر وتوفت على الفور.
كان حادثا مؤلما للقرية بأكملها، وكأن سارة كانت ابنتنا أجمعين، لذلك اقترحت على فاطمة أن أستضيفها في المدينة لتبتعد قليلا عن جو القرية الذي يذكرها بابنتها باستمرار ويجعلها في حالة مزرية، وأن آخذها إلى طبيب نفسي. فلم يكن لها ولزوجها إلا أن وافقا بعد إلحاح مني منقطع النظير، ذلك أني كنت أشفق عليها وأعي جيدا أن مُصابها لم يكن هينا أبدا، وأنها لن تنجو بدون تدخل طبي، خصوصا وأنها كانت لا تتوقف عن البكاء ونادرا ما تضع لقمة رغيف في فمها، وكأن روحها ترفض البقاء في هذا العالم بعد مغادرة ابنتها له، فقد كانت تردد دائما:
-أريد أن أذهب عند ابنتي، فهي بانتظاري.
ففاطمة عانت الأمرين قبل أن ترزق بسارة لأنها عانت سنوات عجاف من صعوبة في الانجاب، كما أن طبيبها الخاص أخبرها أنه من شبه المستحيل أن تُنجب ثانية.
أنا لا أستطيع أن أحس احساسها فأنا رُزقت بولدين رائعين وأنا في سن صغيرة، وعشت ذلك الإحساس الجميل الذي جُبلت عليه كل امرأة وتتمناه من كل قلبها إلا لو كانت انسانة غير طبيعية أو تعاني من عقد نفسية. بعد استقرار فاطمة معي في بيتي كان زوجها يزورها بين الفينة والأخرى، ومع الوقت قَوِيت علاقتنا، وأصبحت تعرف عني كل صغيرة وكبيرة، حتى أنها ألحت علي كثيرا أن يكون حفل عقيقة حفيدتي الأولى في منزلي، وأنها ستتكفل بالطبخ لأنها طباخة ماهرة.
وبالفعل عندما عرضت الفكرة على ابني البكر لم يتردد لحظة في ارضائي، وكان الحفل رائعا بكل معنى الكلمة والطعام شهيا، والكل فرح بازدياد مولودة جديدة اسمها سارة والزغاريد تعم المكان حتى لاحظت اختفاء فاطمة فذهبت لأبحث عنها في المطبخ غير أنني لم أجدها، ثم اتجهت إلى غرفة النوم لأتفقد سارة لكني لم أجدها هي الأخرى.
حينها أدركت أن الخير في غير محله بلاء لصاحبه، ولعنة تصيبه عسى أن يُشفى منها يوما ما.