يعنى بالسرد القصصي والروائي
فدوى العبود || قاصة سورية
غداً أو بعد غد سأودع هذا العالم، سيارة بيضاء مخصصة لنقل الجثث ستدور بي في شوارع دمشق، ومن بوق السيارة سينبعث صوت، صوت لا يمكنكم تمييزه عن صوت بائع الخضار أو البطيخ، صوت أجش وحياديّ، بعيد حدّ أن الموت ليس موتكم. (وقريب لأنه يمكن أن يردد اسمكم في اليوم التالي)
صوت يتبدد قبل أن يصل إلى نوافذكم، بين طول المسافة وصخب ورشات الحدادة وأطفال المدراس وترحيب الأمهات. صوت يدور في أحياء دمشق
سيطلب منكم أن تسامحوني، وأنا هناك راقدة بين الأقمشة البيضاء والتي لن تكون فارهة، مجرد كفنيغطي جسدي كاملاً. سيطلب منكم الصوت الذكوريّالخشن أن تسامحوني، يتابع طريقه منحدراً بين أوردة قاسيون الأجرد، يمرّ بنهر بردى الذي لا أدعي معرفته ولا محبته، فلم أجلس بقربه يومًا ولا ذكريات تجمعنا. فقط رائحة واخزة كانت تعيق تطلّعي للحياة.
متحررة من الثقل المادي ومن كل عقيدة أو فكرة، يمكنني رؤية السيارة من أعلى ومتابعة خط سيرها معكم. وهي تتابع الانحدار نحو المقبرة، العالم يستمر، سيارات في الاتجاه الموازي أحداها لزوجين شابين، أتمنى أن لا يحُرما من الحب الذي جافاني. سيارتهما تمر بسيارة الدفن حدّ أن ذيل وردة الدانتيل الطويل قد لامس نافذة السيارة التي أرقد فيها. وثمة بالون انفلت من باقة البوالين وهو معي الآن في الأعلى يتابع المشهد. أعبث به فيتوهم الصغار أنها الريح.
تنحدر السيارة المسرعة نحو المقبرة
سامحوها يا إخوان...
لأني عشت بينكم غريبة، وكلما قتلتم فتاة سقط جزء من قلبي، لقد تركتموني مجوّفة، بقلب راجف
لا أعرف لماذا لم يتوقف قلبي عن النبض حين كنت ضحيّة مؤجلة بينكم. (كان يرتجف وحسب)
سامحوها يا إخوان
لأني هجرت جسدي كرمى لأعينكم الزجاجية، لقد عشت فيه كما يعيش نزيل في كهف مخيف، لم أشعلشمعة حب فيه يومًا، ولم تزين بوابته وردة. تسكنهالغربان والوطاويط، وكلما نعقت الرغبة قتلتها دون رحمة، عشت فيه كقصر رعب معتم، أسدلت الستائر وأغلقت البوابات. وعشت غريبة فيه وعنه. كنت دخيلة عليه.
سامحوها يا إخوان
لأني وحين تذوقت طعم الأمومة، وهي الشيء الوحيد الباقي. لأني وحين تذوقت الأمان أعلنتم الحرب على بعضكم وسرقتم كلي مني، سرقتم بهجتي، سرقتم أطفالي، وتركتموني كتلة من الحزن.
تطوف السيارة في شوارع دمشق، أسبقها تاركة جثتي الراقدة هناك بين الشراشف (يمكن للجثث أن تنتظر) أفكر بزيارة الفندق الذي ذهبت للعمل فيه يومـــًا، ففاوضني مديره العجوز على جسدي الغض.
أرمي الأشياء عليه وأقذفه بالزجاجات، أمزق الستائر وأحول الفندق إلى منزل أشباح شبيه بمسكن عائلة أشر في كتب إدغار آلان بو، تتصدع جدرانه ويهرب نزلائه بثيابهم الداخلية تاركين فوق الأسرة فتيات مذعورات مرتبكات، طالبات جامعيات صغيرات، أغوتهن الحاجة لا الجسد الذكوري.
أغادر المكان الخراب وأتخيل صاحبه خائفًا يرتعد أمام محضِّر الأرواح الذي سيحاول -دون جدوى-لتخليص المكان مني، (من الروح الشريرة)
سيحضر شيخ الحي الذي شدّ شعري ذات يوم طالبًا مني ستره أمام الجميع، والذي مدّ ذات اليد إلى نهدي في غفلة مني ومنهم؛ سيتلو آيات قرآنية وأخرى من عوالم سفلية لكني سأنتزع كل الأمان الذي في عينيه؛ثم وكعربون محبة أصفق الباب وأرمي شمعة على أثاث الفندق.
سأقصد مطعماً صغيراً في باب شرقي، أفتح باب المطعم، هنا أردت أن أبرهن للشاعر اليساري أنيمثقفة، لكنه مدّ يده إلى مناطقي الحميمية وأمضىسهرته يدوس قدمي. هنا لم يرَ عقلي ولا قلبي. إنه الآن يتحدث بطلاقة سأسكب صحن الحساء فوق رأسه وأدوس قدميه حتى تتورم. وقبل الخروج سأشرب كأس نبيذه وأبصق عليه. (تريدون أن أصف لكم المشهد: لقد فر رواده مذعورين وفرّ معهم صاحب المطعم)
سامحوها يا إخوان
أترون السماح سهل، ارفعوا أيديكم واقرؤوا الفاتحة وقولوا: الله يسامحك.
كرروها ثلاثــــــًا ودون حتى دون أن تعرفوني.
ولكن هل تحتاجون لمعرفتي حتى تعرفوا حجم الظلم الذي أوقعتموه علي؟
سأمرّ بالرجل الذي أحببته، ومنحته جسدي يومــــًا، الرجل الذي كانت أصابعه تتنزه فوق جسدي، والذي سمعته يخبر أصدقائه عن العاهرة التي يمتلكها وقد ملّها، الذي علمني التمييز بين الحب واللاحب. سأسكب الطعام الذي أحبه من يدي فوق مؤخرة القرد التي يمتلكها.
انظروا هذا الجسد الذي رغبتم فيه، يرقد في السيارة وبعد قليل في المقبرة، هذا كله لكم، خذوه. جرجروه أرضاً أو ارموه من أعلى قمة في الجبل...
سامحوها يا إخوان
لأنكم أردتموني كما أنتم، متشابهة معكم،
سامحوني يا أخوان
لأني عشت بينكم خائفة، خائفة من الجدران، ومن قريب لي حتى سابع جد، فهو يملك حياتي كما تملكون الآن سياراتكم وشققكم وعاهراتكم السريــــــّات وقديساتكم العلنيّات
سامحوني يا إخوان
لأنكم هدمتم بيتي في الحرب، لقد أمضيت السنوات الأخيرة من حياتي أزوره في الحلم، أنظفه وأشرب الشاي على شرفته ثم أستيقظ على غرفة صغيرة قذرة.بعد وقت نسيت رائحة بيتي لكنني لم أتوقف عن رؤية الأنقاض في أحلامي (حدّ أني استيقظ كل صباح مغبرّةً كعمال الترحيلات والبناء)
وبينما يصرخ الرجل سامحوها يا إخوان
سيأتي ملاكان خائفان مجبران لكي يصحباني من عالمكم، سيقفان على بعد أمتار مني لتهدئتي بزيّهما الأبيض ونظراتهما المذعورة. وسيرتجفان حين يصرخ مكبر الصوت فجأة
سامحوها يا إخوان
يتلقى الملاكان نداءً في جهاز اللاسلكي: تصرفا بسرعة.
يقتربان مني، وأنا كثور في حلبة مستعدة للعراك، أخيراً يمكنني مواجهة الوجود. أنزع جناحًا من كل ملاك. فيهويان أرضًا، أغرس الجناحين في ظهري وأطير
سامحوها يا أخوان
أحلّق وأنادي: لا تسامحهم يالله...
أطير وأنادي
لا تسامحهم.....يالله