يعنى بالسرد القصصي والروائي
نسمة عودة/ كاتبة مصرية
تجلس بينهم، لكنها غائبة. تشاركهم الحديث بابتسامة مفتعلة ونبرة صوت آلية مثيرة للاستغراب تشبه صاحبة الجملة الشهيرة "انتبه من فضلك السيارة ترجع إلى الخلف". قديمًا، كانت تستمع إلى تلك الجملة بمرح في سيارة والدها وتقلدها، حينما كان هناك أب.. خارق كالأبطال، يستطيع بكل بساطة قيادة سيارة.
تسألها العجوز العابسة بلا سبب عن عمرها، فتجيبها دون أن تلتفت إليها:
ــ أصغر من ابنك بسنتين.
تُحرج المرأة التي تسألها نفس السؤال للمرة الثالثة؛ فتصمت، وتشعر هي بانتصار صغير زائف. تحتمي بخيالها، وتنفصل أكثر عن الواقع.
لم تتخيل أبدًا أن تكون النهاية هكذا، لا حب ولا رومانسية ولا تهديد بالانتحار كالحكايات. اشترى في الزيارة الأولى علبة حلويات شرقية من محل شهير، وفي الزيارة الثانية علبة جاتو من محل لم تسمع عنه من قبل، اليوم لم يشترِ شيئًا. راهنت نفسها أن هذا سيحدث، كانت تتمنى أن تخسر الرهان، ويقدم لها ولو وردة بلاستيكية.
تغادر عالمها بشكل كامل وتتورط في وجود حقيقي، حين يعلو صوت الزوج المستقبلي فجأة..
ــ لكن الثلاجة على العروسة.
تبتسم حين يتحول الاعتراض إلى شجار، تتعالى الأصوات؛ فتتسع الابتسامة أكثر بما لا يليق بالمشهد المؤسف. يُفتح الباب وتدخل زوجة أخيها الغرفة حاملة صينية الشربات، وبكلمات قليلة منها يسود الهدوء ويتبادلون من جديد المجاملات السخيفة. في النهاية يرضخ شقيقها وستشتري هي الثلاجة.
يزداد توترها وحركة ساقيها اللاإرادية حين يتفقون على موعد الزفاف، تحتضن نفسها بكلتا ذراعيها، وتتابع اهتزاز ظل جسدها المتكور على الحائط المواجه لها، يبدو كظل لأداة منزلية ربما دورق أو وعاء عميق.. تلك الأدوات المنزلية الرخيصة المنتشرة على الأرصفة، ويقولون إنها من بلاستيك غير صالح للاستخدام الآدمي وتسبب السرطان، فلم يشترها أحد، مثلها تمامًا.
تتذكر قصة قرأتها يومًا ما عن الجماد، "الجماد يحزن ويسعد ويتألم". تلمع دموع حبيسة في عينيها.. لقد فاصلت في شراء الكثير من الجمادات/ الأشياء، لا بد أن فصالها أشعرها بالإهانة والرخص كما تشعر هي الآن.
تدرك جيدًا أن هذه الخطبة فرصتها الأخيرة لتصبح أمًّا، ستتزوج هذا الرجل، وتضاجعه كلما أراد حتى تحمل، ثم تنفصل بمجرد أن تنجب، هكذا تطمئن نفسها "مسألة وقت لا أكثر". هذه هي الخطة التي تواطأت على تنفيذها قليلات الحظ من النساء.
قبل أن تتم الثلاثين كانت تحتقر هذا التواطؤ وترفضه، لكنها رأت بنفسها كيف يخونها جسدها. كل يوم تذبل أعضاؤها التناسلية وتنطفئ عيناها وتتآكل أسنانها. أصبحت مثلهن تعيش تحت رحمة مخزون مبيضيها متقلبَي المزاج، وتتراجع فرص حملها كل شهر مع كل حيض. ترعبها فكرة فقدان الأمومة؛ لأنها تعني أن وحدتها العميقة ستصبح أبدية.
تحاول تهدئة نفسها، تردد بداخلها أن ظلها لأنثى كاملة وحقيقية وحية، لا ظلَّ لوعاء.
تبعد عينيها عن الحائط والظل الحزين، تحاول التفكير في شيء إيجابي، تتخيل والديها، تضيف إلى ملامحهما تجاعيد عميقة، وتلون شعرهما بالأبيض. تقف بينهما كما الماضي البعيد، تمسك أمها كفها المرتعشة، وبحسم يطرد والدها العريس وأمه المقبضة وشقيقها ضعيف الشخصية، ثم يأخذانها إلى مطعم البرجر، الذي أُغلق منذ عشر سنوات، وأصبح محلًّا للكريب والوافل.
حينما قابلت هذا العريس لأول مرة، شعرت أنه يذكرها بشخص ما. بصعوبة أدركت أن شاربه تفسيرٌ لحلم قديم رأته منذ سنوات بعيدة. كانت تقف أمام مرآة كبيرة تتطلع إلى وجهها الذي نبت فيه شارب كثيف شديد السواد كشارب مخبري الأفلام القديمة. لم تتمكن من نزعه، ولم تستطع إغماض عينيها؛ حتى لا ترى نفسها بهذه الهيئة الذكورية. فسّرت أمها بقلق: "الشارب في منام الفتاة يعني تأخر زواجها".
نسيت بعد ساعات الحلم والتفسير، ففتاة في التاسعة عشرة لن تهتم إن تزوجت بعد عام أو عشرة. لم يخطر ببالها أن التأخير سيكون عمرًا مماثلًا لعمرها آنذاك، وأنها في النهاية ستتزوج رجلًا لا تعرف عنه سوى اسمه ومهنته وعمره.
لم تتجاوز صدمة موت والدها أبدًا رغم العمر والنضج، كانت تراه بطلًا حقيقيًّا من المحال أن يموت، لقد خرج من حرب مهيبة منتصرًا، لكنه لم يتمكن من إنقاذ نفسه أو أمها، ورحلا فجأة دون وداع لائق. تزوج شقيقها الأكبر بسرعة، واحتل هو وزوجته غرفة نوم والديهما. استبدلا كل أثاث الشقة بآخر لا يشبه ذوقها، واحتفظا فقط بالصالون الأنتيكة الثمين، ورغم أن الشرع قد حدد لها ثلث الميراث، حصلت على سرير صغير فقط، لتعيش كل هذه السنوات ضيفة في بيتها وسط ضجيج لانهائي لثلاثة أطفال تجاوزوا قامتها طولًا.
يقرؤون الفاتحة، لا تشاركهم.. تتأمل العريس الذي كان سيخسرها منذ دقائق من أجل ثلاجة وهو ينظر في كفيه بخشوع، بشرته فاتحة وشعره غزير وناعم، سيورث لطفلها جينات معقولة. فجأة يطل روميو برأسه من فوق كتفه، ينظر إليها بعينين حزينتين ويهز رأسه ناهيًا، بينما يرتفع صوت جولييت المحبوسة خلف الكتف العريض محذرًا من التورط في زواج بلا حب.
ربما خانت الذاكرة جولييت؛ فلم تعد تتذكر كيف حطمها الحب، رغم أنها دخلت الصالون نفسه وجلست أمام هذه الكنبة بالتحديد، وحكت باكية لصورهما المطبوعة على القماش كيف خُدعت وخُذلت، وتساءلت هل هذا هو الحب الذي ماتا من أجله؟
تتذكر مكتبة المدرسة الصغيرة التي أعطت لأمينتها صورة بضفيرتين، فصنعت لها بطاقة؛ لتدخل بها المكتبة وقتما تشاء. علقت الكارنيه في زيها المدرسي بفخر، واعتادت الذهاب في الفسحة والحصص الفارغة، تسجل اسمها في الدفتر الكبير، وتستعير كتابًا.
مصادفة كان كتابها الأول "روميو وجولييت"، كتاب من القطع المتوسط بغلاف أسود سميك وورق أصفر ورائحة طيبة.
ابتسمت قليلًا، وبكت طويلًا. حفظت المسرحية جيدًا؛ لدرجة أنهم أعطوها دور البطولة، دور روميو.
للأسف لم تكن أبدًا جولييت، حتى ولو على مسرح مدرسي محدود في مدرسة بنات.
تمر لحظات قراءة الفاتحة كسنوات، تحاول النظر إلى أي شيء آخر غير قماش الصالون الذي يتحرك عليه روميو بنزقه المعتاد. في الأعلى كان التابلو الأبيسون الهاند ميد الذي اشترته من مزاد براتب شهر كامل لروميو وجولييت متعانقين في حديقة، يترك روميو الثاني حضن جولييت، ينادي عليها، وبأداء مسرحي يحلل بطء الوقت في حضور الغريب مرددًا جملته الخالدة: "ساعات الحزن تبدو طويلة".
تفكر أن تركض إلى غرفتها ولا تخرج؛ فتتذكر أنها ليست غرفتها وحدها. تقرر أن تغادر ولا تعود، أن تتقبل لقب عانس وأي لقب يؤكد فشلها كامرأة وحيدة، وهزيمة جسدها الذي سيفقد صلاحيته بعد عام أو اثنين.
تنظر لروميو الآخر الذي قفز من التابلو، وجلس فوق رأس العريس متوسلًا أن ترفض. تقف، تنظر لباب الغرفة، تخطو خطوة مرتعشة تجاهه، يقطع شقيقها الطريق بينهما حين يناولها الشربات.
تشربه كما شرب روميو السم مرة واحدة!
الآن هي ميتة.. تضع الكأس، تبتسم للعريس، تقول لأمه العابسة برقة:
ــ ممكن أتصور مع حضرتك يا ماما؟
فتبتسم العجوز لأول مرة حين تسمع كلمة ماما، تلتقط عدة صور، يظهر في خلفيتها روميو وجولييت بوجوه مشوهة!