يعنى بالسرد القصصي والروائي
هيثم الطيب
قاص | عراقي
عندما يتنفس عازف الكمان، فإنه يتنفس بعمق، لأنه كان يعاني من اضطرابٍ عصبي وتهيج في القولون. وعندما يبدأ بالعزف، وخلال الثواني الأولى، فإنه يغلق عينيه ولا يكترث بأي شخص يجلس بالقرب منه.
في اللحظة التي يغلق فيها عينيه يصبح وحيدًا، وهو يدرك أن لحظات وحدته هذه تجعل اللحن أهدأ، حتى وإن كان صاخبًا. والحقيقة أنه لا يسيطر على يده أثناء العزف، فهناك طاقة غير معروفة تجتاح يده.
قبل حفلته الأخيرة، التي شعر فيها بتعبٍ شديد، وقبل خروجه من بيته عندما تهيأ للنهوض، شعر بالعطش، وأراد أن يشرب قدحًا من الماء. وعندما أمسك بالقدح، سقط من يده وانكسر، في دلالة على حدوث شيءٍ ما، أمرٍ ما يلفه الغموض، ربما سيحصل، جعله يشعر بالقلق.
اتهم في إحدى المرات بالتحرش الجنسي ولم يدفع عن نفسه التهمة، لكونه أخرس. وأهينَ في إحدى المرات عندما كان ثملاً، وضُرب بشكل مبرح لأنه بال على سياج أحد المواطنين الأغنياء، عندما أحيا هناك إحدى حفلاته، ولم يشفع له كونه أخرس أيضًا.
ولاحظ في هذه الأيام أنه وعندما أنهى قراءة رواية لأحد الروائيين العراقيين، شعر بالضيق وبرغبة شديدة في التدخين والخروج من البيت. وعندما سلّم على أحد جيرانه، لم يبادله التحية، بل نظر إليه بضيق، أو هكذا كانت توحي تعابير وجهه المتغضنة.
هذه الأمور أيقظت حواسه وجعلته يحلم بالكارثة التي سوف تحصل. ففي أحد أيام الشتاء الباردة وكان يوم أربعاء كما أظن، نهض متثاقلاً من الفراش وهو يتمطى، ثم صاح ولأول مرة في حياته:
"أين الفطور؟"
ولم يستغرب، لأنه تكلّم أخيرًا.
دخلت عليه أمه المسنّة وهي تحمل فطوره الذي أعدته، بينما بقي طوال هذه الفترة جالسًا في مكانه.
قالت له: "هل ستخرج اليوم أيضًا؟".. شهيته المفتوحة جعلته يتغاضى عن إجابتها، فقالت: "هل أصبحت أصم؟".. لكنه لم يرد عليها. "من المبكر جدًا الحديث حول هذه الأمور"، قال في نفسه، "إذ لا تحدث هذه الأمور في المدن الكبيرة دومًا، وسنرى عندما يحلّ الليل ماذا سوف يحدث". نظر إلى الساعة الجدارية، والساعة التي في يده، وكان الفرق بينهما خمسًا وأربعين دقيقة وثلاثين ثانية بالضبط. أشعل سيجارة، ثم عاد إلى الاضطجاع في السرير وتخيل أنه يعزف في شوارع باريس وأن الناس تعرفه هناك!!..
وعندما سألته إحدى الجميلات: "من أين أتيت؟".
كان بارعًا في الكذب وقال لها:
"جئت للتو من ميونخ، كنت في ألمانيا. أنتِ تعرفين أنها باردة، أبرد من الثلاجة التي أضع فيها مشروبي والبيض والحليب. سأعزف كثيرًا هنا، ثم سأتناول ساندويتش، وأمضي إلى غرفتي، غرفتي هناك في آخر الشارع الذي يؤدي إلى بغداد. أنتِ لا تعرفين هذه المدينة، إنها هناك في آخر الشارع، حيث يقف رجال الشرطة. أنا أعيش هناك وحيدًا". لكن المرأة الجميلة غادرته على عجل، وقالت له بلهجة باريسية مثيرة:
"أنت لا تعزف بشكل جيد. تعلّم العزف جيدًا قبل فوات الأوان."
لكن الأوان قد فات.. لقد وصل رجال الإطفاء متأخرين جدًا. لقد تحوّل المسكين إلى قطعة فحم، احترق تمامًا. وعلى حد قول رجال الإطفاء، فقد كان مستغرقًا في النوم، وربما كان ثملاً أيضًا، كما يظهر من رائحة الغرفة التي امتزجت فيها رائحة احتراق الخشب مع رائحة الخمر.
وقالوا أيضًا إن سبب الحريق تماس كهربائي، كثيرًا ما يحصل في هذه المنازل القديمة.
ولم يتبقَ سوى الكمان، الذي احترقت أوتاره.