يعنى بالسرد القصصي والروائي
كلكامش نبيل | كاتب عراقي
من كوارث تسطيح التعامل مع التاريخ الجزم بوجود ارتباط بين السكان الحاليين في بقعة جغرافية معينة والتاريخ السحيق لتلك البقعة، بل وربط هويتهم المعاصرة بهوية السكان القدماء، بطريقة غير علمية وشعبوية رخيصة.
قرأتُ عن خبر إعادة ترميم جمجمة امرأة من انسان نياندرتال عُثر عليها في كهف شانيدر في محافظة أربيل، لكن الأخبار تناولتها بطرقٍ شعبوية مثيرة للأسى المضحك معًا، وزاد الطين بلة ما التقطه صناع المحتوى من الخبر بطريقة مغلوطة، فقد كتب أحدهم «اكتشاف جمجمة امرأة كوردية عمرها 75 ألف عام في كوردستان»، ونشر أحدهم صورتها ترتدي الملابس الكردية، فيما قال آخر بأن العلماء أطلقوا عليها اسم «أم الكورد»!
في الواقع، الخبر يتحدث عن إعادة تشكيل ملامح جمجمة مهشمة، وهذه المحاولات (مع التقدير) لا تعدو أن تكون عملاً فنيًا غير ذي قيمة علمية واقعية، فليس في مقدورهم معرفة ترتيب العضلات على العظام العادية – ناهيك عن تلك المهشمة كأنها مطحونة – وبالتالي لا يمكن معرفة توزيع عضلات الجبهة والخدين والفكين والحنك وغيرها، وبالطبع لا سبيل لديك لمعرفة لون البشرة أو العينين أو الشعر! كل هذا خيال محض يتناوله العوام – وحتى بعض الخبراء من ذوي الذكاء المنخفض والجاهلين بتفاصيل عمليات إعادة التشكيل هذه – على أنه حقائق! ولا عجب ونحن نشاهد اليوم أشخاصًا ينشرون صورًا من انتاج الذكاء الاصطناعي – الذي يرسم صورًا بناءً على خزين البيانات المتوفرة لديه – ويفترضيون أنها تجسّد ملامح هذه السلالة أو تلك.
الخطأ الآخر أن إعادة تشكيل الملامح هذه ليست اكتشافًا، فقد أكتشفت أول تسع هياكل عظمية لإنسان نياندرتال في كهف شانيدر بين عامي 1957 و1961 على يد فريق من جامعة كولومبيا الأميركية.
الكارثة الأخرى هي ربط انسان نياندرتال بالبشر الحاليين – الذين تقول نظرية التطور أن سلفهم هو الإنسان العاقل Homo Sapiens – ويرى البعض إمكانية حدوث بعض الاختلاط بين الانسان العاقل – الخارج من إفريقيا – وبين انسان نياندرتال أو كرومانيون أو غيره، وينفي آخرون حدوث مثل هذا التزاوج. إن حديث العراقيين بأن انسان نيانتدرتال هذا سلف العراقيين الحاليين، أو حديث الكورد على أنه سلفهم، لسذاجة بالغة تكشف جهل المتحدثين بالنظريات «العلمية» وتأويلهم لها بما يخالف منطلقاتها الأساسية. إن نسبة السكان الحاليين لإنسان نياندرتال إساءة لهم تخرجهم عن الانسان العاقل.
المعضلة الأخرى المتكررة هي ربط السكان الحاليين بالتاريخ القديم للمنطقة التي تصادف وجودهم فيها أو هجرتهم المؤكدة إليها في بعض الأحيان لتحقيق أهداف قومية أو سياسية.
كثيرًا ما أتحدث عن موقع غوبكلي تبه Göbekli Tepe في هذا الصدد، حيث يتباهى به الأتراك على أنه من أقدم مواطن الحضارة، لكن هذا يتنافى مع كل ما يؤمن به القومي التركي وينفي هويته التي يتفاخر بها. فإذا ما كان تركيًا صميمًا، فهذا يعني أن أسلافه سكنوا أواسط آسيا وأنه هاجر إلى هنا في القرون الأخيرة، ولا علاقة له بسكان هذا الموقع ومنجزهم، كما أنه لا علاقة له بالحثيين أو البيزنطيين، وإذا ما أصرّ على وجود الصلة فإنهم يهدم روايته القومية وهويته من حيث لا يدري! والمفارقة الأخرى أن الموقع في أورفا، التي سكنها طويلا الساميون من آراميين وعرب لاحقًا، والموقع نفسه على الحدود مع سوريا، وكان يمكن أن يكون ضمن سوريا لو أن الحدود قد رُسّمت بشكل مختلف، فهل ينتقل الفخر فجأة من تركيا إلى سوريا بجرّة قلم؟ وما أسخف فخرٍ يعتمد على الصدف الجغرافية والجيوسياسية إذن!
بالمثل، صادفتُ ذات مرّة صديقًا عراقيًا يصرّ على تقديم نفسه كسومري، لأنه يعيش في الناصرية بجنوب العراق، وفوجئتُ بشخصٍ يعرفه ويكتب له متسائلاً: «أليست عشيرتك من نجد في الجزيرة العربية، وأنت تعلم زمن قدومها إلى العراق؟ وكيف تشيّعت فيما بعد؟»، فأجاب الرجل بالإيجاب! ألا يعدّ مثل هذا الادعاء كاذبًا مع علمه بتاريخ أسرته القريب؟ هل يصحّ أن يزعم الممثل المصري «حسين فهمي»، ذي الأصول الشركسية الأرستقراطية، بأنه حفيد رعمسيس أو تحتمس الثالث؟ وهل يصح أن يدّعي الممثل المصري «عمر الشريف»، المولود لأبوين مهاجرين من سوريا، صلته بسكان مصر القديمة؟ وهل يصحّ أن نربط ما يقرُب من نصف مليون فلسطيني في تشيلي، جلّهم من المسيحيين، بسكّان الإنديز القدامى؟ وهل يصحّ أن نعتبر «جو بايدن»، المنحدر من أسرة من أصول أيرلندية، أو «دونالد ترامب»، المولود لمهاجرين ألمان، بالهنود الأميركيين؟ بالطبع لا.
مع ذلك، لا يتورّع الباحثون المدفوعون بأجندات قومية أو سياسية، ولا قادة الأحزاب القومية أو مؤسسي الدول، من الكذب والتزييف وخلق ثالوث وهم عماده ربط الجغرافيا الثابتة والتاريخ السحيق وهويات السكان المعاصرين، بهدف تحقيق الهدف.