يعنى بالسرد القصصي والروائي
شيخة حسين حلوى || كاتبة فلسطينية
لا تكفيه الحرب وإيجار البيت وأمّه التي ما تنفك تشكو البرد وضيق الحال (لا ينسى كيف قامت قبل يومين بإحراق الملابس القديمة كي تدفئ البيت) وأخوه الذي يتسكّع في الشوارع والفتاة الّتي يحبّها تتعمّد تجاهلهُ.
تنقصه هذه البهدلة الآن؟
بأيّ وجه سيقابل وجه صاحب المحل هذا الّذي لا وجه محدّدا له؟
ضحكَ من كلّ هذه الوجوه الّتي تزاحمت في سؤال واحد. تخيّل صديقه المثقّف يهزّ رأسهُ إعجابا من سؤال حكيم ويضيف جملة فلسفيّة لن يفهمها أبدا مهما حكّ رأسهُ. لماذا يتعمّد هؤلاء المثقّفون اختيار كلمات صعبة وجمل طويلة؟
مرّة أخرى يأخذهُ هذا الرأس بعيدا عن مصيبته الطارئة على روتين يومه:
يخرجُ من البيت في الثامنة صباحا، يجتازُ ثلاثة شوارع، وقبل أن يفتح الدكّان يشتري من المقهى ساندويشة وكوب شاي ويثرثر مع روّاد المكان نصف ساعة أو أكثر. عادة ما تدور الأحاديث حول مباريات كرة القدم والفريق الرابح وذاك الخاسر.
حين يصل الحديث إلى أحوال البلد والناس والحرب يتمتم كثيرون:
لنا الله ولا أحد سواه!
يقول بجرأة:
أين هو الله؟ هو لا يحبُّ الفقراء أمثالنا. الله لو كان موجودا فهو حتما ربُّ الأغنياء فقط. نموت ونجوع ونُرمى في العراء وهو لا يحرّك ساكنا.
لو سمعه صديقهُ المًثقّف سيصفّق له معجبا. هو أيضا يعتقد أنّ الله غير موجود في الأحياء الفقيرة، لهذا يُشفق على صلوات الناس لربّ لا يمرُّ من حيّهم إلا ليوسّع السماء لطائرة أخرى وقذيفة جديدة.
مرّة أخرى يحيد ذهنهُ عن ورطته، ولماذا لا تكون هذه الورطة نتيجة مباشرة لإغفال الله لهُ؟ لا يعرف، ما دام الله ليس موجودا في حيّهم فهو غير مسئول عنها.
يعرف أنّه يجب أن يجد حلا سريعا وإلاّ سيرميه صاحب المحل في الشّارع، وماذا يعطيه هذا الحقير؟ قروشا لا تبدّد سواد أيّامهِ، ولكنّها تحفظ كرامته وهي عندهُ جوهر وجوده.
سيذهب إلى صديقهِ المُثقّف ويقول له دون مقدّمات:
- اسمع، أنا في ورطة حقيقيّة، الشرشف التركيّ الثمين سُرقَ من الدّكّان، لا يهمّني أن أُطرد من العمل، ولكنّني لن أرضى أن يُشاعَ عنّي أنّني لصٌّ. هل تفهمني؟
- هل تعرف أنّ كلمة شرشف تركيّة الأصل وليست عربيّة؟
- قلت لك إنّه الشرشف التركيّ المعلّق في واجهة المحل منذ بداية الحرب.
- نعم أعرفهُ. أظنّه أثمن ما فيها.
- الغريب أنّ مُعلّمي لم يسألني عنهُ. كيف لم يلحظ اختفاءه؟
- ربّما يمتحنُ أمانتك.
- وإذا لم أسترجع الشرشف؟
- ستكونُ لصّا خائنا في اعتباره طبعا.
- ماذا أفعل؟
- لا أعرف. ليس من السّهل إيجاد شرشف طاولة مسروق إلاّ إذا اقتحمنا كلّ بيوت الحيّ، وهذا نظريّا غير ممكن.
نظريّا غير مُمكن؟ وكيف يكون ممكنا؟
هؤلاء المثقّفون لا يملكون سوى الكلام السحريّ، أمّا الحلول السّحريّة فلا يُتقنها سوى اللصوص، اللصوص فقط.
تركهُ في المقهى وقد تملّكهُ يأسٌ كبير. إذا وجد الشرشف سيعيدُه إلى مكانه في المحل ويبحث عن عملٍ جديد. لا يريد العمل مع شخص يضع أمانته في اختبار دائم.
لم يفتح المحلّ في اليوم الثاني. قال للصبيّ الّذي أرسلهُ المعلّم يستوضح غياب عاملهِ عن العمل:
قل لهُ إنّي مريض جدّا، أحتاج يومين أو ثلاثة حتّى أتعافى كما أنّ رصيد الهاتف عندي قد نفد.
عند الظهر كان صديقهُ المُثقّف يقفُ ببابهِ.
تعالَ معي، لقد وجدتُ شرشفكَ.
أمطرهُ بأسئلةٍ كثيرة، أينَ، وكيفَ، وهل أنت متأكّد؟
تعال معي وستعرف.
بعد عشر دقائق من المشي السّريع توقّفا أمام عمارة تطلُّ على شارع مكتظّ، أشار صديقهُ إلى الطابق الثاني حيثُ تستندُ امرأةٌ أربعينيّة على حديد شرفتها والشّرشفُ التركيّ يتمايل على حبل غسيلها. ما زال رطبا مُراوغا، يخال المراقبُ للمشهد أنّهما (المرأة والشرشف) تآمرا على المارّة، هي تُشعل نارا في رؤوسهم المرفوعة نحوها، وهو يُخفّف من لهيبها بقطرات تسقط عليهم مباشرة.
- إنّه هو، هو بعينهِ!
- أعرف، ولماذا أحضرتك إلى هنا برأيكَ؟
- كيف وصل إليها؟
- ليس هذا مُهمّا، المهم أنّنا سنستعيدُهُ.
- كيف بربّك؟
- هي تريدني كما ترى، وأنا أريدُ الشرشف، ولا بأس من بعض التنازلات، إنّها قضيّة وطنيّة.
- قضيّة وطنيّة؟ إنّها كرامتي وسمعتي.
- طبعا، وكرامتكَ من كرامة الوطن.
عدنا إلى الكلام السحريّ.
بثقة كبيرة دلفَ المُثقّف إلى العمارة واختفت المرأة من الشرفة.
بعد ساعتيْن عاد إليه حاملا الشرشف في كيس من النايلون.
- تفضّل شرشفك التركيّ الثمين، لم يكن الأمر صعبا، على العكس يمكن القول أنّ بعض قضايا الوطن تكون مُمتعة جدّا.
- كيف وصل إليها؟
- (ضحكَ طويلا) لقد أهداها إياهُ مُعلّمك مقابل تنازل بسيط منها.
- هذا القوّاد الحقير...وكنتُ سأصيرُ لصّا خائنا! يختبرُ أمانتي بينما يتمتّعُ هو معها؟
- لا عليك، هذه بضاعتنا رُدّت إلينا كما قالوا، خذهُ لقد صار من حقّك الآن.
غيّر رأيهُ. اللصوص يملكون حلولا سحريّة والمثقّفون أيضا.
سار نحو بيتهِ مزهوّا.
لقد أصبح أخيرا صاحب قضيّة وطنيّة.