يعنى بالسرد القصصي والروائي
شروق لطيف
قاصة | مصرية
في ظلِّ التطوّراتِ التكنولوجيّةِ الحديثة، وما بلغَهُ العلمُ من تقدمٍ مذهل، ومع انتشارِ الذكاءِ الصناعيِّ الذي أذهلَ العالمَ بتوغلهِ العميقِ في كلِّ مناحي الحياة، كنتُ أتصفَّحُ الإنترنت ذاتَ يومٍ حينَ استوقفني إعلانٌ لعيادةٍ طبيةٍ شهيرةٍ يزفُّ خبراً استثنائياً. إذ أعلنَ عن قدومِ طبيبٍ بارعٍ في جراحةِ القلب، وأثارتْ دهشتي عمليةٌ غريبةٌ روّجَ لها؛ عمليةٌ أثبتت نجاحها في كافة بقاعِ الأرضِ، تُتيحُ استبدالَ القلبِ البشريِّ بآخرَ تكنولوجيٍّ يعملُ بدقةٍ وانتظامٍ، ليُحسِّنَ صحةَ من يعانون من مشكلاتٍ في قلوبهم.
تابعتُ القراءةَ بشغفٍ وتمعُّن، وما لبثَ الفضولُ أن دفعني للتواصلِ مع العيادة لمعرفةِ التفاصيلِ والتكاليف. لكن أتى السؤالُ الحاسمُ الذي أربكني:
"بِمَ تعانين من مشكلاتِ القلب؟ هل هو انسدادُ شرايينٍ أم عدمُ انتظامِ النبض؟"
ترددتُ لحظة، فقد كانت معاناتي أعمقَ من أن تصفها مصطلحاتٌ طبية. إنَّ ما أعانيه ليسَ مرضاً فسيولوجياً، بل رهافةُ قلبٍ مفرطة. أجبتُ الطبيبَ قائلةً:
"إنّه قلبٌ سريعُ التأثر، سرعان ما يحزن وسرعان ما يتأثر يعيشُ بينَ أضلعي كفرسٍ جامحٍ في حلبةِ سباق".. تعجبَ الطبيبُ من جوابي وقال بابتسامةٍ غامضة:
"لنُسمّه إذاً مفرطَ الحساسية!"
وأضاف: "إنه مرضٌ حقيقيٌّ يؤرّقُ صاحبه".. وما كان مني إلا أنْ حسمتُ أمري وقررتُ إجراءَ الجراحةِ لاستبدالِ قلبي القديمِ بقلبٍ حديث. كنتُ أعتقد أنَّ ذلك سيكونُ خلاصاً من انفعالاته وتقلباته التي أرهقتني لسنوات.
عندما أخبرني الطبيبُ بأنَّه سيحتفظُ بقلبي القديم في محلولٍ كيميائيٍّ ليظلَّ خافقاً، علَّني أعودُ إليه يوماً ما، استهجنتُ اقتراحَه بثقةٍ: "لن أعودَ إليه أبداً."
تمت العمليةُ بنجاحٍ، وشعرتُ براحةٍ لم أعهدها من قبل؛ قلبي الجديدُ كان منتظماً، غيرَ سريعِ التأثر. لكن، ومع مرورِ الأيام، بدأتُ ألاحظُ أنني فقدتُ شيئاً عزيزاً.. في صباحٍ هادئٍ، رأيتُ طفلاً صغيراً يجرُّ صندوقَ قمامةٍ ثقيلٍ، ويتناولُ سندويتشاً بدا أنَّه من بقايا طعامِ المتنزهين. لم يتحرّكْ قلبي الجديدُ تأثراً، وبقي ساكناً كأنه لا يعنيه الأمر فتعجبت من جمودي!! وفي موقفٍ آخر، بينما كنتُ أودّعُ والديَّ قبلَ سفري، لم أستطعْ حتى الردَّ على دموعهما ودعواتهما بل في الواقع لم أشعر أنني كنت من الأساس سأفتقدهما!! وفي يومٍ حزين، تلقيتُ نبأَ وفاةِ جدتي، خبرٌ كان من شأنهِ أن يزلزلَ كياني لو كان قلبي القديم معي، لكنني واجهتهُ ببرودٍ عقلي: "هذه سنةُ الحياة."
عندها أدركتُ أنني أضعتُ شيئاً أثمنَ من الراحةِ؛ أضعتُ شعوري الإنسانيّ. ثارَ عقلي وقال: "ويحكِ! لقد أمت ِ قلبكِ! اذهبي واستردي قلبكِ الحنون وإلّا أصبحتِ دميةً بلا شعور."
هرعتُ للطبيبِ أطلبُ استعادةَ قلبي. ابتسمَ الطبيبُ قائلاً:
"كنتُ متأكداً أنَّكِ ستعودين."
نظرْتُ إلى قلبي القديم وهو يخفقُ ببطء، وقلتُ له: "سامحني! لم أدركْ أنكَ نعمةٌ من الخالق، جعلكَ رمزاً للحبِّ والتعاطف".. استيقظتُ فجأةً على صوتِ رسالةٍ إلكترونية من العيادة التي كنت بدأت في التواصل معها بالفعل، مكتوبٌ فيها: "بِمَ تعانين من مشاكلِ القلب؟ نرجو تحديدَ الحالة".. ابتسمتُ وشكرتُ الله وتأكدت أن خيالي جنح بعيدا وسرعان ما استفقت، وقلتُ في نفسي: "حمدا لله ما زال قلبي في مكانهِ... ولن أحتاجَ إلى قلبٍ حجريٍّ ما دمتُ حيَّة"