يعنى بالسرد القصصي والروائي
سلام إبراهيم | روائي عراقي
أقتحم رقدته المستكينة سطوع ضوءٍ ثاقب، فرمش بتوتر قبل أن يفلح بمباعدة أجفانه المتخشبة. جفل منكمشاً وطعن بأطراف أصابعه الجدار الهش واثنان من الدراويش أقبلا نحوه من ممر أنفرج وسط الحشد المتلاحم العاري، لفا حول نفسيهما وصرخا:
- الكل فيه غموض.. أين الوضوح؟!.
- أين يلوذ؟!
- أين يختبأ؟!.
- أظهر.. أظهر.. يا أيها اللب.. أظهر!.
غمره رفيف أجنحةٍ طيور جعلت ترش رذاذ طيب أشعره بالرواء، فأهتز ناثراً يابس أوراقه كشجرة خضتها ريح الخريف:
- يا شفيعي ماذا يريدون مني؟!.
- أعمْ بصرهم عني!. فأنا خائف مذعور!.
جلس من رقدته متكوراً لصق الجدار، أعشت عينيه شلالات ضوء تدفق من جسد الدرويشين:
- وجدناه.. وجدناه
- أنهض من تكوك!.
- أنهض.. أنهض
- أنت الخليط العجيب
- أنهض جئنا من أجلك!.
- لم تنزوِ في ركنك المتآكل؟!.
- تعال.. تعال!.
أنجدني يا شيخي.. أنجدني ها أنا أهتز هلعاً!.
انتزعتهُ أربعة سواعد من ضوء، وحملته إلى الأكتاف العارية، المسلوخة الجلد، كائناً من الطين المبلول. دارا به في اللجة البشرية المعروقة المتأودة المنارة بأضواء حزم الذنوب، كتل الآثام القانية، شفق الآفاق الدامية. رأى تحته؛ موج الرؤوس المنثورة الشعر، المتمايلة على إيقاع الدفوف والطبول والصنوج الضاجة:
وضعوه في دائرة وسط الحشد، وداروا حوله صارخين
- ما الذي أخرك؟!.
- أكنتَ تبحث عن يقين؟!.
- حزرنا حلمك يا نديم؟!
- هاهي صبية أحلامك عافتك.
- مهجوراً.. مهجوراً صرت كبناءٍ مهدمٍ
- يا صديق الدراويش
- ستسلو قربنا!.
- أكنت تحلم بالكتابة؟!.
- أي عبث ولغت به؟!.
- إلى مَ تكتب ولم يا يتيم؟!.
- ألغْ حلم الكتابة!.
- قبلك كتبوا ماذا جنوا؟!.
- تقول نذرت نفسي لأكتب عن العذاب يا مجنون!.
- ها أنت وجدت نفسك منبوذاً، وحيداً، مسكيناً، مكروهاً، ملفوظاً من الكل!.
- يا مسكين..
- أتعتقد أن الكتابة سوف تنفس عن عمق عذابك..
- لا.. لا.. هذا هراء.. هراء!.
- هراء يا هذا.. هراء!.
- لو أنك مثلنا اختصرت الرحلة وعرفت كيف تختار موتك؟!.
صرخ من وسط الدائرة بصوتٍ موجوعٍ مفجوع:
- أردتُ.. أردتُ
- حاولت وحاولتُ يا رب الأكوان والجنون لكن الموت الظالم تخطاني، وتركني للعذاب.. للعذاب.. للعذاب
- حي.. حي.. الله حي الله حي مدددددددددد
تحجر الدمع بعينيه وراح يردد بهمسٍ:
- يا شيخي الجليل خلصني.. أنقذني من يمّْ المعاني المنهمرة على رأسي المسكين.. أنقذني يا سر الأسرار وتالي المعاني.. حبيبك مسكين.. مسكين!.
وتقطعت أنفاسه فلاذ بالصمتِ لاهثاً، ينصت لصراخ الدراويش بعينين بدأتا تصبان دمعاً ساخناً:
- أصمت ليس لديك غير الصمت نديما
- تقول تكتب عنا، كما تتخيل الآن!.
- لا نحتاج قلمك لا نحتاج
- نحن معاني مضمرة
معاني في النفوس والحجر والسماء!.