يعنى بالسرد القصصي والروائي
هند يوسف خضر
قاصة وكاتبة | سورية
جلست في غرفتها المتواضعة، جدرانها الممتلئة بالصور والرطوبة يستفز خيالها المصاب بالاضطراب، سريرها المحفور على جنباته رسومات سريالية كانت كثيرة التحديق بها لفك رموزها لكنها لم تكن تصل إلى نتيجة فتغض نظرها عنها، كرسيها المصنوع من الخيزران المتسمر قرب النافذة له حكايات خاصة مع المارة، طاولتها الصغيرة المصابة بلوثة الأوراق والأقلام وفناجين القهوة تخبر ناظريها عن معركة حامية الوطيس فوقها، مكتبتها المزدحمة بالكتب بمختلف أنواعها التي ورثتها عن والدها منذ فترة قريبة تخبرك عن تاريخ ذهب ولم يعد، نايها الذي كانت تعزف عليه عندما تسيطر الكآبة عليها فتبوح بأنينها له، باقة فوق طاولتها من الأزهار تتجدد كل صباح لتبدد حزنها، تفاصيلها الكثيرة تشي بأنثى لا تشبه أحداً، بحر من الأسرار داخل الغرفة تجبرك على الغوص في أعماقها لتكتشف حياتها، لم تكن عرافة ولكنها تتقن بمهارة لغة العيون وهذا ما كان يساعدها على فهم أغلب الناس الذين تعرفت عليهم في حياتها...
هي كتلة من الغموض لا تبوح بما تكتمه إلا عندما تقرأ ما تخفيه العيون.. كانت متمردة على كل شيء حتى الهواء لم يكن يعجبها عندما يكون أهوجاً، رغم صغر عمرها إلا أنها كانت تعرف ماذا تريد وأين تضع قدميها؟ تصوب السهم نحو هدفها ولم تعرف معنى الفشل.. ذات صباح كانوني بارد، أصوات الرعد في الخارج تكاد تسقط النوافذ لشدة قوتها، كان الجو يدفع إلى الريبة والتأمل من قوة الرعد، أشعلت مدفأتها، أحضرت كوباً من الشاي بالنعناع فهو مشروبها المفضل، استدارت نحو المكتبة و قررت أن تبدأ بمطالعة الكتب، فهي تتذكر كلام والدها عندما كان على قيد الحياة، كان دائماً يردد لها عبارة (سوف تجدين في الكتاب حلماً تبحثين عنه بين خبايا الحروف)، بعد حيرة كبيرة بين هذا الكتاب و ذاك أخذت كتاباً لم تعرف عنوانه، كمن يحرب حظه و يسحب ورقة يانصيب، كان العنوان بالنسبة لها شيقاً و مثيراً لفضولها (امرأة الحلم المفتوح).
شعرت أن مضمونه يشبهها، وحتى أنها سرحت بخيالها أكثر مما يجب فظنت أن الكاتب قد كتب لها من دون أن يعرفها، قرأت الإهداء فهو يثير فضولها، ثم بدأت تقرأ كلماته بشغف لا مثيل له، لم تستطع التوقف عن متابعة القراءة، كل جملة تقرأها تحرض رغبتها لاكتشاف تلك المرأة التي سيطرت على إحساس الكاتب، سبرت أعماق الحروف التي كان يمسكها بين يديه و يطوعها كما يريد، أحبت كل وصف صاغه بإحساسه المشحون...
كانت دائمة التساؤل بينها وبين نفسها: لمن يكتب هذا الكائن المسكون بالعشق، ربما أخفى عن الجميع عن ماذا يبحث في كتاباته و أبقى المعنى في قلبه ومن هي الأنثى التي رسمها بين سطوره، لكن كنز تلك الفتاة المسكونة بالحلم كشفت السر الذي اختبأ بين جرحين وقلب، لقد اخترقت كلمة السر لفؤاده كأنها تعرفه، تمكنت من فك رموز مشاعره، ذابت في معانيه كما تذوب قطعة السكر في كأس الشاي، أحاسيس متشنجة اعترتها، أصابتها لعنة التفاصيل أثناء رحلة بحثها عن أجوبة لأسئلة كثيرة راودتها، كان أبرز سؤال زلزل كيانها (من هي؟) بالتأكيد لن تعثر على الإجابة فهي تتعامل مع روح كاتب لا تعرف عنه إلا اسمه و كتاباته.
حل الظلام وطوق السكون المدى ولم تستطع النوم إلا بعد أن انتهت من قراءة الكتاب..
استيقظت في اليوم التالي، بدأت تفكر كعادتها، كنز لا تهدأ عن التفكير بطبيعتها حتى تصل حد الإرهاق ولكن هذه المرة انحصر تفكيرها بين دفتي كتاب، ترى ماذا حدث لها ولماذا استوقفها؟
شعور غريب انتابها عندما أمسكت الكتاب مجدداً - نعم- تريد قراءته مرة أخرى، شعرت برجفة لذيذة، نفس الرجفة التي يشعر بها من يقع في الحب لأول مرة ولكن نحن أمام حالة عصية على الفهم فهنا لا يوجد طرف آخر لنقول أنها وقعت في حبه...
بدأت تحلل أفكار الكاتب، حاولت أن تفهمه وكأنه محبوبها الحقيقي، وجهت إليه أسئلة وكأنه ماثل أمامها وبقيت الإجابات قيد الانتظار، وأما عن بطلة كتاباته فقد سيطر الفضول على كنز لتتعرف عليها، ربما كتب من وحي خياله و ربما تكون هي المقصودة بمحض المصادفة وقد جسدها بطلة لروايته و عنواناً لافتاً لقصصه، حدثت نفسها: يا إلهي كأنه يعرفني أو كأنه يبحث عني، الأنثى التي خلدها في حكاياته تشبهني إلى أبعد حد، لقد سيطر الأمل على مشاعر البوح لديه أثناء رحلة بحثه عن امرأة الحلم المفتوح، وأحياناً يوحي لنا بأنه سيجدها لو طال البحث وسيتحقق حلمه العتيق، في أعماق كل تفصيل رواه يكمن وجع ممزوج بنسمة أمل وأنا أهوى الغوص لفك شيفراته، أواااه.. تبدو رحلة بحثي صعبة وقد تستغرق زمناً ليس محدداً، يا للجنون! يبدو علي أنني أعيش قصة عشق خرافية، لقد حاولت تجاهل هذا الكتاب والاهتمام بمطالعة غيره ولكنني لم أستطع، شيء ما يشدني إليه ولا أدري ما هو.. بعد سفر طويل إلى المجهول بينها وبين ذاتها، حضنت الكتاب بفرح عارم لم تشعر به من قبل وقالت: قد أكون لغزاً وربما أكون بحراً من الأسرار ولكن بين دفتي هذا الكتاب عرفت أنني السر الذي لا يُفسَر....!