loader
MaskImg

السرد

يعنى بالسرد القصصي والروائي

ما بين آريانا وماريانا

breakLine


كلكامش نبيل| كاتب عراقي /الجزء الثاني

 


مرّت الأيام ببطء وكبُر «سُليمان» قليلا، لكن والدته «آريانا» تلظت بنيران الشوق وحرقة الفراق. كانت تفكر في بُعدها عنه وتسمع بأنهم قد جلبوا له مرضعة لها طفلٌ يقرُبه في السن، فيما حُرمت هي من لمسه أو إرضاعه أو حمله. كانت تلك الأشواق تدفعها إلى حافة الجنون وكانت تهدّد بأن تنسف المعبد على رؤوس الجميع لتسترجع ابنها الصغير، لكن والدها حذرها من مغبّة القيام بذلك وذكرها أن العواقب الوخيمة ستطال الجميع، وبالطبع حاول الأمير إقناعها بأنه على عهده وسوف يجد الوقت المناسب والطريقة المُثلى لإعلان زواجهما وردّ الطفل بعد أن يصبح الحاكم، كما وعدوا وأخبرها أنهم اتفقوا على ذلك ولم يخدعها وقد وافقت على جميع التفاصيل. تكرّر إلحاح «فرناس» وابنته، فقد كان الأخير أيضًا حزينًا لأن حفيده في بيتٍ غريبة ولا يمكنه التعرّف عليه.

قوّض الأرق مضاجع الأمير «أمْدش» وحاول إيجاد حلٍ ما، وتوقع بأن خطته أفضت إلى طريقٍ مسدود. وفي أحد الأيام، ضجّت المدينة بأخبار انقلاب في مملكة مجاورة نفذه قائد الجيش المقرب من الملك وقام بقتل سيده وجميع أفراد أسرته وبسط سلطانه على البلاد. شعر السلطان بالقلق فقد كان الملك صديقًا له وقد تبادلا الكثير من الهدايا وبعض الزيارات. لم يكن يتصوّر أبدًا وقوع مثل ذلك الحدث وبدأت الهواجس تطرق بابه وتخطف النوم من أجفانه. 
في إحدى جلسات السمر، لاحظ «أمْدش» شرود السلطان وبدت ملامح الإرهاق والأرق جليّة على مُحيّاه. قال الأمير وهو يصبّ كأسًا من النبيذ: مولاي السلطان، لستَ وحدك في هذا، فكابوس ذلك الانقلاب يؤرقني أنا أيضًا!

قال السلطان مستدركًا: أحقًا؟ 
قال «أمْدش»: وكيف لا؟ نحن الآن أسرة واحدة وما يصيبك يصيبنا! يا له من زمن انعدمت فيه المروءة والصداقة ورد الجميل! 
قال السلطان: من كان ليتصوّر مثل هذه الخاتمة لصاحبي الملك! لقد كان يقرّبه منه في كل شؤون البلاد ويستشيره في كل صغيرة وكبيرة.
قال «أمْدش»: ربما يمكن الخطأ هنا! يجب ألاّ نثق بأحدهم أيّا كان ومهما ظهر لنا من أمره. يجب أن نسلط العيون على العيون ونبني هرمًا من الجواسيس يرصد بعضهم بعضًا، وفي النهاية اثنان يتجسّسان على بعضهما أيضًا، ولا يعلو فوق الرقابة سواك! 
قال السلطان: لكن قد تكثر الدسائس والمكائد ويتعكر صفو المملكة ويوقع بعضهم ببعض بدافع الغيرة والحسد.
قال «أمْدش»: يمكننا أن نستخدم معهم أسلوب العصا والجزرة ونتأكد من كل خبر عن طريق المزيد من العيون، إلا في حال كان الأمر جسيمًا وحاسمًا ومستعجلاً. 
قال السلطان: كلامك صحيح، ولكن كيف لنا أن نرصد «فرناس» مثلا، وهل نقوم بإضعافه وكيف السبيل لذلك؟
أجاب «أمْدش»: لقد فكرتُ في ذلك طوال الأيام الماضية، وأظن أن علينا أن نراقبه ونغريه ونضعف قوته معًا، لكنني أخشى ألا يروق لك كلامي!
قال السلطان: تكلم! لن أنزعج منك وإذا لم يعجبني الكلام سأنساه كأنك لم تقله. 
قال «أمْدش»: حسنٌ٬ أما الاضعاف فذلك بخلق كيان عسكري موازي لحرسه يكون تحت سلطتك مباشرة ومسؤوليته حمايتك بشكل شخصي، وأما المراقبة والاغراء فلم أرَ إلاّ أن تتزوج ابنته «آريانا»!
صرخ السلطان: ماذا تقول! هذا جنون! إنها في عُمر ابنتي ولطالما لاعبتها في طفولتها! كيف تجرؤ على هذا!
قال «أمْدش»: سيدي السلطان، سوف يجعلها ذلك مخلصة لك وتتجسّس على والدها إن هو خطط للانقلاب، كما أنه سيعتبر نفسه من أفراد العائلة وسوف يطمع في أن تلد ابنته طفلا يكون ولي عهدك وهكذا يصبح دفاعه عنك مضمونًا أكثر. 
قال السلطان: لا، لا! يستحيل ذلك! إنها صغيرة وبمثابة ابنةٍ لي! 
قال «أمْدش»: لن نضمن شرّه إلا بذلك، وإذا ما عزلناه الآن فإننا نقدّم الشك على اليقين، وقد نعجّل في انقلابه وردّه من دون أن نعلم استعداده وقوته وهو يقود الحرس منذ زمنٍ بعيد. 
قال السلطان: كلامك صحيح، ولكن لا يمكنني ذلك!

قال «أمْدش»، وقد سعِد لوقوع ما خطط له: أخشى أنه لم يتبق لنا إلا أن أرتبط بها، على الرغم من كراهتي للأمر، فلا مكان في قلبي سوى لابنتكم المبجلة «ماريانا»! 
قال السلطان: هل جننت؟ هل أثقلت في الشراب؟ كيف تجرؤ على ذلك؟ وما الذي ستحققه بذلك؟
أجاب «أمْدش» بخوف: أقسم أنني لا أفكر في امرأة غير «ماريانا»، ولكن للظروف أحكام. نحتاج للتجسّس على «فرناس» من الداخل، وأن يشعر بأنه فرد من عائلتنا، وسوف يطمع في أن يولد له ولدٌ مني، مع أنه لن يأخذ السلطان، ولكنه سيكون شقيق السلطان القادم، بعد عمرٍ مديد لجنابكم، وسوف تكون ابنته رهينة عندنا لو فكر في الانقلاب، وسأضمن ألا يولد لها طفلٌ مني فأنا أعرف خبيرًا في الأعشاب يُلمّ بعلوم الأقدمين، من الهنود والصينيين والفرس والإغريق، وخبرات الصيدلة عند البابليين والمصريين والسريان، وكل علاجاته مضمونة. 
قال السلطان: لا، لا! هذا مستحيل! وعلى فرض حصول موافقتي، فكيف ستقنع «ماريانا» بالأمر!
قال «أمْدش»: حبيبة قلبي تعرف مدى حبي لها وهي امرأة حكيمة تقدّم مصلحة البلاد على غيرة النساء وقصص العشق. إن وافقت، فاترك الأمر لي لإقناعها.
شرب السلطان كأسه وهو يتمتم بالرفض، ثم قال: دعني أفكر في الأمر! كل الخيارات مريرة ومكلفة!
قال «أمْدش»: خُذ وقتك في التفكير سيدي الكريم، وما هو إلا اقتراح للخروج من الأزمة، ولا شيء أكثر مرارة من أن نلقى مصير الملك المخلوع صاحبنا! 
قال السلطان: اللعنة على الحُكم!

بعد أيام، جاء السلطان مهمومًا وأخبر صهره بسرعة بأنه موافق وقد ترك الأمر له ليفعل ما يشاء، ثم أضاف: «إن تحقّق الأمر، لن يكون هناك حفل زفافٍ كبير»، وغادر المكان. حلّق قلب «أمْدش» من فرط السعادة، وشعر أنه قد تغلب على العقبة الكأداء، ولم يبقَ سوى الجزء الأيسر من الخطة لإقناع «ماريانا» بالتحايل والتخويف.

وبعد سهرةٍ جميلة، أطلق «أمْدش» حسرة طويلة وترك كأسه وأخبر زوجته عن حزنه بسبب هواجس السلطان وخشيته من «فرناس» وأن يلاقي مصير الملك المخلوع، وأنه حاول عبثًا إقناعه بطرد تلك الأفكار من رأسه، وأن الحوار وصل إلى خياراتٍ صعبة وأطلعها على التفاصيل بالكامل.

صرخت «ماريانا»: هل فقدت صوابك؟ تتزوجها! كيف تجرؤ!
قال «أمْدش»: أقسم أنني لم أفكر بهذا يومًا، ولكننا في وضعٍ صعب ويجب أن نحمي أنفسنا، فتكون هي رهينة عندنا إن فكّر والدها في التمرّد، وتكون عيننا عليه، وتطمع في أن تنجب مني من دون أن يحصل ذلك.
أرعدت «ماريانا» بالرفض: لن يحدث شيءٌ من هذا ما حييت!
شعر «أمْدش» أن عليه اللجوء للخطة البديلة، فقال: أخشى أننا مجبرين على ذلك، فقد أوقعني والدها الوغد في الفخ، وأنا أتوقع أن المخاطر حقيقية، وأنه لم يصنع صنيعه إلا لطمعه في السلطة. إن لم نرضخ لطلباته سيوقع بنا معًا ولن يغفر لنا السلطان فعلتنا؟
قالت «ماريانا» مذعورة: ماذا حصل؟ عن أي فخ تتكلم؟
قال «أمْدش»: إنه يعلم بأن «سليمان» ليس ابنك!
صرخت وكاد أن يغشى عليها: كيف! كيف حصل ذلك! اللعنة!

قال «أمْدش» مظهرًا حزنه ودفن وجهه في يده: الذنب ذنبي! لقد أوقعني في الفخ. في إحدى رحلات الصيد، وبعد أن أثقلنا في الشراب، أفشيت سرّ بحثي عن وسيلة للإنجاب، وكان يعلم كما الجميع بأننا لم نرق بصبي. وبعد أن أخبرته، بغبائي وبسبب السكر، عن بحثي عن سيدة لتبني طفلها، بدأ يقنعني بأن من الأفضل أن يكون الطفل من صُلبي. رفضتُ ذلك لأنني آبى خيانتك. مع ذلك، واصل التلاعب بي وقنعني بأن الطفل من صلبي سيكون أقرب إلى نفسي وهكذا أوقع بي، وبعدها عرض عليّ الزواج من ابنته سرًا وحصل ذلك فعلا بعد إقناعي بأن امرأة من أسرة تليق بنا أفضل من امرأة من عامة الناس.
صرخت «ماريانا» بألم، وضربته بقوة على صدره: كيف تفعل ذلك! كيف تفعل ذلك!

قال «أمْدش»: معك حق! مهما فعلت، ولكن الأمر قد وقع ولن نغيّر الماضي لا بالصراخ ولا البكاء، بل بالحكمة لإصلاح الخطأ الذي وقعنا فيه. لو علم والدك بالأمر، فلن يطيح بي لوحدي، بل بكِ أيضًا، فقد خدعته في شأن الحمل والولادة. لقد ورطنا ذلك الوغد وعلينا أن نمضي معه إلى النهاية، حتى نطيح به. 
انتحبت «ماريانا» وألقت بنفسها على السرير: أكرهك! أكرهك!
قال «أمْدش»: لن ألومك أبًدا، ولكن الأمر خرج عن السيطرة، من أجل،ولدنا ومستقبلنا وسلامتنا!

قالت: بل ولدك أنت وابنها!
قال «أمْدش»: لقد اقنعته أن نعلن الزوج فقط من دون أن يُكشف أمر الصبي، وسيبقى أبننا سوية!
قالت: لم نتفق على ذلك أبدًا.
قال: لكننا وقعنا في شباكه ودسائسه، ولا مفرّ لنا الآن ولا دربَ للرجوع. 
واصل حديثه لوحده، وسط دموعها، ليقنعها بأنها لن تكون زوجته حقًا ولن تنال ولدها ولا غيره، وسوف يتخلصون منها ومن والدها في أقرب فرصة مواتية. في النهاية، رضخت «ماريانا» للأمر الواقع ونام الصعر المخادع قرير العين تلك الليلة ولم يرَ كابوسًا وسخر من العجوز الضرير الذي طاردته كلماته طوال الأيام الماضية.

بعد أيّام، أقنع «فرناس» وابنته بأن الزواج سيتم في نطاق ضيق وستنتقل «آريانا» إلى منزله، وقد يقضيان بعض الوقت في منزل والدها، وأن مسألة بُنوّة الطفل ستبقى سرًا حتى يحين الوقت ويصبح هو السلطان بعد وفاة «ديّان» وعندها ستكون «ماريانا» ضعيفة ووحيدة، فيقرب «آريانا» ويعلنها الزوجة الأولى ووالدة ولي العهد. أقنعهم مجددًا بأن التضحيات الجسيمة تستغرق وقتًا وأن فرح الحصاد يأتي بعد الجهد والدموع.

بعد شهر، أقيم حفل الزفاف الصغير وانتقلت «آريانا» لمنزلها الجديد وحظيت بفرصة قضاء بعض الوقت كل يوم مع الطفل مع الحفاظ على السر. شعر «أمْدش» أنه أصبح الحاكم بالفعل، فهو السلطان القادم، ويحظى بثقة السلطان، وهو والد ولي العهد، ويمكنه أن يحرّك السلطان وقواته ضد «فرناس»، ويحرّك الأخير ضد السلطان إن اقتضى الأمر. قال ضاحكًا بثقة، محدثًا نفسه: لقد أحكمت قبضي على مقاليد الحكم وجناحي السلطة: القرار والجيش! لن يقف أحدٌ في طريقي إلى التاج!