loader
MaskImg

السرد

يعنى بالسرد القصصي والروائي

مقهى فارغ يعجّ بالحاضرين الغائبين

breakLine

 

 

 

 

لمياء الفالح/كاتبة تونسية  
                                         

في احدى زوايا المقهى الخالية من الرّواد جلست إلى الركن بجانب حائط كريميّ اللّون، الهدوء والصمت يخيّمان على المكان وصاحب المقهى يجلس قبالتي على احدى الطاولات فاتحا جريدة كتبت باللغة الفرنسية. ما ان رآني حتى طوى الصحيفة وبابتسامته المعتادة توجه نحوي ليعرف طلبي. دققت النظر فيه على غير عادتي، عجوز تجاوز الستين يرتدي ملابس أنيقة كلاسيكية كسى شعره البياض والحمرة لم تختف من خدّيه رغم تقدمه بالعمر.
رحّب بي بوجه بشوش وسألني عن حالي وعن سبب غيابي مدّة طويلة، اذ تعوّد على مواظبتي شرب فنجان قهوتي هناك بصفة دوريّة. كثيرا ما رآني أجلس وحيدة بهدوء وسكينة على نفس الطّاولة وكنت أصحب بعض أصدقائي بين الفينة والأخرى.
في المرّات التي أكون فيها وحدي لم أركز بتاتا على الثنائيات التي تجلس بجانبي متناثرة هناك وهناك ولم أُلقي بالا لأحاديثهم وأصواتهم المنخفضة. بل كنت أفضل الانغماس في قراءة مقال أو كتابة خاطرة أو الاستماع بتأثر إلى الأغاني الفرنسية القديمة التي لا تنفكّ تنبعث من مذياعه لتضيف على المكان رونقا سحريا وجماليّة بالذات أثناء استمتاعي بشرب فنجان قهوتي الخالية من الحليب والسّكر.
ما ان غادر ليحضر لي طلبي حتى انبعثت أغنية خوليو اغلاسياس "tout de toi" من احدى الزوايا. كم تبدو هذه الأغنية مفعمة بالحنين لأشياء لن تأت وأخرى لن تعود.
بعثت كلمات الأغنية في نفسي الكثير من الخَواء وامتزج المعنى باللاّمعنى. شردت بخيالي مع نغمتها وإيقاعها بعيدا عن هنا أفكّر بكل النساء الأقلّ حظا في هذا العالم وبدا لي أنهنّ كثيرات.
"يأتي الحبّ على هيئة أشخاص حين لا نرغبه، ويغادر في حلّة شخص واحد فنريده أكثر" 
لدي اعتقاد جازم بأن كل امرأة تفشل في الحبّ ستصبح يوما ما مُلهمة لغيرها من الأخريات ونموذجا لقصّة نجاح يُقتدى بها، والأمثلة كثيرة...قفز إلى ذهني إسمين لا ثالث لهما. الليدي ديانا والباكستانيّة منيبة مزاري. هاتان المرأتان أمرهما عجيب ومثير للإستغراب فرغم رقّتهما وحسّهما المرهف ما إن كسر قلبيهما رجل ما حتّى صارتا نجمتان في أوج توهجهما تلمعان في سماء الإنسانيّة. صدق الأديب نجيب محفوظ حين قال "وفي المرأة إمرأة اخرى تستيقظ فقط حين تنكسر، حين تؤمن بأن لا أحد في هذه الدنيا سيكون معها فجأة تصبح أقوى".
سأستهل حديثي عن منيبة مزاري التي نشأت داخل عائلة محافظة وتزوجت في سنّ صغيرة تلبية لرغبة والدها. إذ لا يحقّ للفتاة هناك أن ترفض وتقول "لا" وإلا فالويل لها. بعد سنتين من الزّواج تعرضت رفقة زوجها لحادث مرور مأساوي كان سببه الرئيسي استهتار الزّوج ونومه أثناء القيادة. النتيجة كانت كارثية عليها وحدها، إذ فقدت منيبة المقدرة على السّير مجددا وصارت أسيرة للكرسيّ المتحرّك مدى الحياة. كما حرمت من الإنجاب بسبب إصابة خطيرة على مستوى الظّهر. نامت في المستشفى لفترة طويلة وشعرت بالأسى لحالها، توقف الزمان في نظرها فكان مهربها الوحيد من الأذى النّفسي الذي لحق بها فرشاة وطلاء ألوان ولوحة رسم بثّت فيها كل آلامها. أخافتها جدا فكرة الطلاق والإنفصال لكنّها تقبٌلت الأمر وتعايشت معه ما إن تخلّى عنها زوجها وارتبط لأخرى. بعد كل ما تعرّضت له ماتت بداخلها إمرأة لتولد أخرى أشدّ شفافيّة ورقٌة وأكثر قوّة وليونة وصدقا مع نفسها ومع الآخرين... إمرأة تجيد التعامل مع مصائب الحياة وتشعر بالإمتنان نحو كلّ نفس يدخل رئتيها. ما إن تغيرت طريقة تفكيرها وصارت تنظر للحياة على أنّها هبةٌ من السّماء حتى بلغت السلام الداخليٌ الذي كانت تنشدهُ وبدأت رحلة النّجاح والصعود والتألق. صار إسمها بعد ذلك في قائمة أكثر 100 إمرأة مؤثرة في العالم، ونجحت في العمل كأول مذيعة تلفزيّة وأول عارضة أزياء تجلس على الكرسيّ المتحرّك، حتى حلم الأمومة لم يكن بعيد المنال عنها فتبنّت طفلا وقامت رفقته بتأسيس عائلة صغيرة منسجمة ومُحبّة.. ناهيك عن خطاباتها الحماسيّة حول الصّمود والأمل التي ألهمت الآلاف غيرها ممّن يعانون بسبب ضيق أفق الحياة وويلاتها. التحوّل من الضعف والإنكسار إلى القوّة والثقة بالذّات في شخصّيها جعلني أستحضر جملة قصيرة معبّرة قالها الكاتب السوري آلان كيكي في أحد نصوصه التي ناصر فيها كل إمرأة سبق لها التعرّض للخذلان "طوبَى للرّجال الخائنين.. 
لقد رمّموا هشاشة النّساء".
ما حدث مع الأميرة ديانا أيضا كان مشابها ويصبّ في ذات المعنى وإن اختلفت أحداث الحكايتين والتفاصيل التي تحتويها كل منهما... فديانا هي الأخرى إمرأة رائعة أحبّها الآلاف بإستثناء الرّجل الذي أحبّته ووهبته قلبها، معاناتها معه حوّلتها في ظرف وجيز لأيقونة ورمز من رموز الإنسانيّة ودفعتها إلى تخليد إسمها في الذّاكرة العالميّة.
وقع أقدام صاحب المقهى يتجه نحوي بخطى واثقة حاملا فنجان القهوة وقطعة المرطّبات بالشّوكولا في يده مع إبتسامة عريضة على وجهه أعادني من شرودي إلي واقعي. لاحظت أن أغنية خوليو إغلاسياس انتهت في حين بدأت بعدها أغنية جاك برال « ne me quitte pas »
بادلت الرجل إبتسامة وشكرته بلطف على الأغاني الجميلة الهادئة التي يضعها للزائرين. أغانٍ أثارت على الدوام في كل من يسمعها أحاسيس مختلطة من الفَقْدِ والفراغ والخواء والوحدة المفرطة.