يعنى بالسرد القصصي والروائي
حسين علي /كاتب عراقي
امست ليلة من ليالي الصيف المتعبة، حيث اختلطت رائحة السمك المقلي بطعم الحنين البسيط، لم يكن حدثا استثنائيا، لكنه انطبع في ذاكرتي كأنه لوحة لن تمحى، أرقب ضوء القمر وهو يعكس ملامحه المرتبكة على اسطح وجدران المنازل العتيقة كأنهما يتحدثان بصمت عميق.
لم يكن هناك ما يميز تلك الليلة سوى شعور غريب بالامتلاء، وكأن العالم قد توقف ليتيح لي فرصة تأمل تفاصيله الصغيرة، أحاديث الجيران الخافتة، ضحكات الأطفال البريئة، ووميض اليراعات الذي أضفى على الظلام بريقا خاطفا.
ربما لم تكن الليلة حدثا بحد ذاتها، لكنها حملت لي شعورا أشبه بصندوق صغير مليء بذكريات منسية، كل مرة أتذكرها، أجدني أعود لذلك الشعور، لتلك الرائحة، لذلك الطعم الذي تركه الصيف في فمي!!
طوال النهار المفعم بالنشاط، أخذني أبي للمصور الفوتوغرافي ممسكا بيدي، بينما يملأني الحماس والخجل في آنٍ واحد، لأخذ صورة للوثيقة المدرسية.
أردت أن أبدو بأفضل حالاتي، وابدأ حياة جديدة كما يردد ابي دائما.
قرر أن نذهب الى السوق، بعد ان انتهينا من معاملة الصور، لم أكن أستوعب تماما تفاصيل العالم من حولي، لكني شعرتُ بشيء مختلف في خطواته.
اشترى لي ثياب العام الجديد ودفاتر وأقلام وحقيبة من عالم ساندي بيل، إذ حملت الأكياس الصغيرة وكأنها كنوز لا تُقدّر بثمن.
حين عدنا للمنزل كان المغرب قد حل بعتمته، جلبنا السمك وقررنا أن يكون عشاؤنا بسيطا، لكن، المفاجأة كانت بانتظارنا، وإذ بأمي قد أعدّت الكبة، تلك التي تحبها عائلتنا ولا نتناولها إلا في المناسبات.
أصبحت سعادتي مزدوجة آسرة، الملابس الجديدة، والطعام الذي طالما اعتبرناه احتفالا، لكن فرحتي الأكبر كانت رغبتي بأن أرتدي ثيابي الجديدة ليشاهدها والدي، أصررت على ارتدائها، في حين أمي كان لها رأي آخر :
- ماما، انظري الى ثيابي الجديدة
- يا الهي!! ثياب أميرتي الصغيرة. تحتضنني وتقبلني
- ماما، دعيني ارتديها الآن لتفرحا بها
- لا يا صغيرتي!! ، بعد ان ننتهي من الطعام ارتديها بينما اعد لكما الشاي
ما ان انتهينا، بدأ البيت يغرق في هدوءه المعتاد، أبي، كعادته، أسند رأسه إلى وسادة وغفا سريعا.
أسرتني تلك الملامح وتقاسيم الزمن التي ملأت وجهه، تحمل تعب الأيام ودفء الأمان، في كل تجعيدة على جبينه حكاية عن صبره وكفاحه، لم يكن أبي رجلا عاديا، بل وطنا صغيرا كنت ادخره لألجأ إليه حين تضيق بي الدنيا، وسندا لا يميل مهما اشتدت العواصف.
طالما نظراته حملت مزيجا من الحزم والحنان، وصوته يروي لي قصص الايام وعثراتها، تنبض بالحكمة والتجربة، في كل يوم بعد هذا العمر، أذكر جيدا كيف كان يربت على كتفي حين أتعثر، وكيف كانت كلماته تبث في نفسي طمأنينة لا تشبه أي شيء آخر، لطالما تعلمت منه أن القوة ليست في الجسد، بل في الروح التي تصمد أمام محن الحياة.
لا يمكن وصف شعور وانت في خضم الحياة المتلاطمة، ينسلخ عنك فجأة سند ذاتك وحياتك وكأنك في قلب المحيط، مثل هيكل معدني صدءاً منبوذا، او تبدو ككائن حي لفظه الزمن وتركه يواجه مصيره، لا صوت يعلو فوق همس الرياح وصخب الأمواج التي تداعب اشيائك الصدئة، تحمل في طياتها تعاسة الخذلان ومرارة الفقد، لتكن نهايتك مجرد بقايا مبعثرة.
حينها قررت أن لا أضيع الفرصة، نهضتُ من جانبه بهدوء وارتديت ثيابي بسرعة وحماس.
عدتُ بفرح مرهف، منتظرة أن يفتح عينيه ويبتسم لي، لكنه كان غارقا في نومه العميق.
جلست بجواره، ووضعت رأسي على كتفه، أنتظر الصباح كي يراني بتلك الثياب، والى الآن، لم يستيقظ!