يعنى بالسرد القصصي والروائي
جنان السعدي
قاص وشاعر | عراقي
حينما اقترب موعد حقنة المضاد الحيوي، بكل رقة تقدمت "ندى"، ذات الوجه الصبوح والعيون بلون السماء الصافية من "أمينة"..
-ندى أرجوك ان تتركيني، مللت الإبر والعلاجات العقيمة، يبدو أن أجلي قد دنا..
-سيدتي لابد من أخذ العلاج في وقته المناسب، لا تنسي رحمة الله..
-حاشا لله رحمته واسعة، وقد أكرمني عمراً طويلاً..
-إذن اسمحي لي، سوف لن تشعري بأي ألم!!.. كانت ندى ماهرة في أداء واجباتها التمريضية، لبقة في كلامها، ودودة كسبت حب جميع من يشاركها العمل أو الحديث، لاسيما أمينة الثرية، امرأة الأعمال الناجحة، التي فشلت في زواجها الثالث الذي انجبها ولداً بعد وفاة زوجها الأول والثاني. لم تكن محظوظة في علاقاتها العائلية، رغم الطيبة الظاهرة لكل من يعاشرها.
-كم عمرك ندى؟
-اثنان وأربعون
-لماذا لم تتزوجي للآن وأنت الجميلة، صاحبة المعشر الطيب والذوق الجميل، وبالتأكيد كنت أجمل في العشرين..
-ظروف ماماتي!
-تكلمي فأنا مثل والدتكِ
-انها ذكريات مؤلمة، لا أحب العودة اليها.
لكن الست أمينة أصرت أن تسمع قصتها من باب الفضول، وقضاء أطول مدة مع ندى لقتل وقت الفراغ، خاصة و أنها تعيش وحيدة بعد سفر ولدها الوحيد خارج البلد.
-سيدتي العزيزة، كنت وأحمد نحب بعضنا.. "سحبت الست أمينة نفساً عميقاً وحسرة عند سماعها اسم أحمد" حباً شديداً، فهو زميل دراستي الابتدائية والمتوسطة، حتى الثانوية كان لنا فيها تواصل مستمر رغم افتراق مدارسنا، صحيح كنّا من طبقتين اجتماعيتين، لعنة الله على الفوارق الطبقية، يوماَ أهداني وردة حمراء دسستها في كتاب الوطنية وصادرتها المُدرِسة بخبث، تقدم للزواج ابن عمي وأكثر من خطيب بينهم طبيب وضابط وكنت اتحجج بتكملة الدراسة، بانتظار تقدم احمد لخطبتي.. نزلت دمعة على خد الست أمينة بعد استذكارها ولدها أحمد الدلول وتنفيذها طلباته جميعها عدا طلب واحد فقط، وكان يتعلل بأسباب غير مقنعة لتأخير الخطوبة..
أصابني حزن كبير وكآبة ابعدتني عن الدراسة وأنا في سادس ثانوي، حتى لقائنا الأخير في حديقة الزوراء وعند الشجرة التي نحتنا تواريخ لقاءاتنا في جذعها المتين وسرقته قُبلة دون ارادتي، كانت عيونه تتكلم بدلاً عن شفاهه الممتلئة الوردية. لمحت ارتجاف يديه لأول مرة مع ارتباك وتيهان شديد في جمع الأفكار وصياغة الكلام.
-ما معنى هذا التوتر والتوجس في الكلام، لم أعهد منك وانت الغِرّيد؟
-لا شيء
-أحلفك بحياتي ومعزتي عندك، اقلقتني..!!
-سأهاجر دون عودة!.. أنتفخت أوداج الست أمينة، وكأن شيئاً ما بدأ يحيك خيوطه في ذهنها المتعب.
-ما هذا الهذيان؟
"أصابني بزلزلة هزتني حتى كدت أسقط من هولها"..
-ندى حبنا يجب أن يدوم، عليك أن ترافقيني خارج البلد
-لا يمكنني ترك أمي وحيدة، هل جننت؟..
-جننت بحبك، عليك أن تتخذي قرارك حالاً..
-أحمد حبنا، الأيام الجميلة، احلامنا خططنا المستقبلية، أولادنا الثلاثة، بنتنا الجميلة وهي تغص من الضحك في الارجوحة البنفسجية، طلباتك الكثيرة على العرسان، أليست تلك أمانينا، مالذي دهاك؟
-لا وقت لهذا الكلام، وافقي لنكمل حياتنا كما نشاء..
راحت دموع ندى تنهال كالمطر، شاركتها دون تصنّع السيدة أمينة، واستحضرت طلب ولدها الذي غادرها دون عودة...!