loader
MaskImg

السرد

يعنى بالسرد القصصي والروائي

آلام العجوز

breakLine

 

 

محمد حليم الكيشوان  || قاص عراقي 

 

 

كان يَنفثُّ دُخَان سيجارته ببطء وهو جاَلس بمحاذَاة النافذة ، اصْطَفقت النوافذ واهتَزَّ الرواق كزلزال عظيم اكْتسحَ المدينة. نهض مُتَأَوّه بسحنة مُنهكة تكاد تكون حزينة وعيناه الرّماديتان ذابِلتان والرأس بدأَ يَنزف للمرَّة الثانية لهذا اليوم لضرب رأسه في الجدار أثناء الانفجار سارَ وهو يلفّ الشاش ويكبسه بقوة كي يُثّبت العقدة على الرأس و يُقلّل النزيف.

كان يمسك بيده كاميرا لتّوثيق الصور ، فذُهل من مُشاهدة هذا المشهد : رأى أشلاء الجثث مُتناثرة في الأرض كأنها أوراق الخريف المُتساقطة في الحدائق والغابات ، ابتلعَ ريقه المر وراحَ القلبُ يطوف بعالم الصور والمشاهد . وأخذت الروح تتجرد من سيطرة الحواس الى مُثُلها العليا ..

وجدتُ جسدي يسيرّ في شارع السعدون متجهاً صوب ساحة التحرير حين وصل توقف بجانب المخرج أوس كريم ألقى التحية ومّد يده وتصافحا. ثرثرا قليلاً. وسحق سيجارته المنطفئة تحت حذاءه. فتح آلة التصوير ودسَّ عينه في العدسة. وبدأ يأخذ الأنسيرتات الأساسية للتغطية الأخبارية ، جدارية فائق حسن ، ميدان السيارات ، لقطة أفقية الى المحلات (pan right, pan left) ، كان يوم مُشمس حار. وبدأ البائعة والسائقين والمتسولين يتوافدون أمام الكاميرا. وحين بلغ الحديث أشدّه أحمرت وجوههم وراحوا يصرخون بغيض على سوء الخدمات ومطالبهم المسلوبة علَّ أن يسمعها المعنيين بالأمر ولو لمرةً واحدةً ويريحوا هؤلاء الناس. 

صادفتنا في نهاية التغطية صبيَّة أنيقة مرتديةً معطفاً أبيضاً وبنطالاً أسوداً مظهرها يكشف للوهلة الاولى أنها طالبة في العلوم الطبيّة ونسيت شلح معطفها بعد الانتهاء من المختبر. 

ولما وصلت بجوارنا ناديتها بحياء بينما بقي أوس كريم يتكلم في الهاتف . وشرعت أطرح الأسئلة السابقة هزت كتفيها هازئة من الخرفان حسب قولها. وحين ذهبت أنتابني فضول الصحفيين البُلهاء الذين يتراكضون وراء رجال الأعمال والسياسين بعد أن يتموا مؤتمراتهم ، لكنها لم تكن لا رجل أعمال ولا سياسي ، وانما فتاة أنيقة بائسة ، تسير تحت الشمس الحارقة ، لحقت بها بعد ان تيقنت أثناء الحوار أنني قد رأيتها من قبل وسألتها : عفواً! ألست انتِ صديقة حسن سوادي؟

- نعم. كيف عرفت قالتها بفخرٍ وبعيون مستفهمة.

- شاهدتكِ في شارع المتنبي بجانبه ، أعتقد في شتاء العام الماضي. وأذكر كنتِ تحميلن لوحة زيتية. قلتها وأحمرّ وجهيّ وأنا انظر إليها تارة ، وإلى تزاحم السيارات بسبب حادث مروري عرضي أخرى.

- نعم نعم . لديك ذاكرة قوية قالتها بلطف وأضافت : رُبمّا أنا أيضاً رأيتك من قبل .. بما أنك صديق لهذا الرسام حتماً انه أخبرك على معرضه الخيري ... أليس

كذلك؟ 

كانت نادية لطيفة وبريئة لا تخفي معلومة إلا وأفصحت عنها ، أضف على أنها تعظم اتفه الأشياء. وتجهش بالبكاء لأقل شيء. وهذا سوف يجعلها تعاني وتتألم كثيراً. ان تفاهت الأشياء إذا أطلنا التفكير فيها تتعمق وإذا تعمقت تكون النتيجة : حزّنٌ متواصل يبيّض الشعر ويقلص الجسد ويسلب العُمر . 

إذن لهذا السبب أفصحت عن معرض الرسام بهذه السهولة لشخص غريب وتسألت عنه. نعم ، لنعود إلى الحوار كي لا يشيب رأسنا أيضاً.

 

اوه .. نعم قال لي ان معرض اللوحات المجانية سوف يقيمه في الكرادة بالقرب من مشفى الراهبات. وأضاف : كما قلتي انه أرث المرحومة أمه سوف يتبرع به للفقراء ، أن هذا (الرسام) رجل كريم وشهم وياليت اقرانه يشبهونه ولو بقليل. قالها بتفاخر وبصوت يزداد تحسراً في الجملة الأخيرة.

- أشاطرك الرأي، شكراً لك، سُعدت بلقائك، أنا نادية ، وأنا أكرم ..

راحت هذه المشاهد تترأى لي حين كنت بمجزرة الأمس التقط الصور بيدي المرتعشة وقلبي المجروح المُضرم. وها نحن الآن نتكاتف بحمل نعش (الرسام) ونضعهُ فوق الحافلة في ساحة التحرير ، التقطت عيني صورة عامة لحشود الناس الحزينين ولقطة قريبة إلى نادية. كانت منتصبة بثيابها السوداء وعيناها الدامعة التي تبكي من يراهما عن قرب ومنهم أكرم آه كيف حال نادية الآن.. دلفت إلى أحد أصحابي المقربين وناولته الكاميرا لكي يضغط الزر ويبدأ بتوثيق الحدث الكبير ، حين نحمل النعش وسط الجماهير الحزينة. لأني حينها قد فتك بي الألم وشرع يتمادى على الروح ويبتزها إلى أن خرج للجسد وجعله كدمية لاتقوى على ثقل هذا الألم ! من المؤكد اليوم الجماهير ستفتقده! ترى ما الذي حل بنادية ياترى؟

ومع إختفاء الشمس وحلول المساء راحت الأمطار تتساقط بغزارة مصحوبة بوميض ورعد مدّوي، أطفات جميع الشموع المشتعلة في الساحة وأجبرت الالاف المنتفضين في الاختفاء بسرادقهم.

كان أكرم أمام حاسوبه في الخيمة مشغولاً بأهتمام بالغ لأتمام الروبرتاج. كان يربط الفديوهات القديمة بالأخيرة. بعدما أتم عمله ضغط زر أطفاء التشغيل وأغلق الحاسوب.

خرج لاستنشاق الهواء ، أشعلَ سيجارة كانت السماء لا تزال تمطر ، رأى شاب وشابة جالسان تحت سقفية تُكان مغلق يضعان شمعتان أمامهما وعيناهما شاخصتان إليها دون أن ينبسا بكلمة.

وأنا انفث الدخان تذكرت نادية وحسن سوادي عندما كانا جالسين في ليلة أمس بنفس مكانهما. شعرت بالحزن وقلت في نفسي متى تنتهي المعاناة ونعود إلى منازلنا؟ أكُتبَ ذلك في جبيننا أم أنه نتائج أفعالنا؟ أو ربمّا عصافير الصدفة هي من حلقت بنا وأوصلتنا الى هذا الحال؟ كما أجلست اولئك الشابان تحت السقيفة، وكما جمعتني بنادية أمام الكاميرا بمعية ملايين المشاهدين وبالمستطاع ان تحلق بنا إلى مكان وزمان أكثر استقراراً. 

وأنا أستلذ بتدخين سيجارتي الثاني رنّ هاتفي. اخرجته. كان رقما غريباً أجبت 

- الوو نعم مَن

- أكرم ابيكَ مريض وفي وضع حرج وقد نطق اسمك

يريد أن يراك!

- ماذا اصابه وما الذي جرى! انتابني الذعر لحاله وكيف أنني تركته بأحسن أحوله لقد أتصلت به منذ ساعتين. الو! الو! قال الجملة الأخيرة وانقطع الأتصال! دخل إلى الخيمة على عُجالةٍ من أمره ، وضع حاسوبه في الحقيبة وحمل الكاميرا بارتباك . سأله أحد اصحابه : 

- ماذا حدث يا أكرم ، أخبرني 

- لا شيء يجب أن اذهب!

قالها ووجهه مصّفر مفزوع وعيونه المذهولة كانت حقيبته تتأرجح على ظهّره ،

رحل راكضاً تحت سقف السماء الممطر وضجتها تاركاً أصحابه ينادونه ويتصارخون بينهم. وهكذا ..إلى أن لحقه أثنين منهم متراكضين ، الإنسان عندما يتعلق بمن يحب ينسى نفسه وطموحه وربما مبدأه ، لكن أكرم لم ينسَ الأخير ولو نسى فعلاً لما وازن ما بين ابيه وامه والقضية التي يسعى من أجلها. 

نزل من الحافلة مشدوه الفكر منهار القوى وعند غلق الباب وقع نظره على صديق لم يعرف أن يصف هويته بسبب إنهمار ماء الأمطار على النافذة. لكن هل يعقل هذا فكيف إذاً عرف أنه صديقه وقد تنبه أنه من المقربين ولم يتذكر اسمه؟! أجابه كونديرا هذا السؤال بمنتهى الخفة : وهو أن غياب "العقل الشاعري" الذي هو يسجل فقط مواقف واحداث مرت به وكان عقله الشاعري قد توقف عن البث لغياب التفكير بهذا الجزء (الهوية) وتركيزه الكلي على ماهو أهم وهو : الوصول بسرعة قصوى الى المنزل.

وصل منتصف الزقاف وكان العرق ينضح من جبينه وجسده وقطرة عرق باردة نزلت من ظهره متسللة إلى الأسفل، وبعد أن رأى الزقاق هادئ التقط انفاسه المتسارعة بصعوبة، وشعر بحرارة مفاجئة انتشرت داخل جسده ، كانت السماء لا تزال ترعد ولم تتوقف حتى الأمطار عن غزارتها، وحين صار بالقرب من الباب أخرج المفتاح، في هذه اللحظة هجم عليه خمسة أشخاص ملثمين يصعدون دراجة نارية قاموا بطعنه بسكاكينهم وخناجرهم الغادرة. كان قائد المهمة شاهراً يده على الحقيبة مسلط سكيناً عكست ضوئاً طفيفاً. حملوها من الأرض بارتياب وقاموا بفتحها ، للتأكد من نجاح المهمة المكلفة. ولكن شاءت مشيئة الرب العادل أن تفشل مهمتهم ونواياهم وأن يعطف الرب بمعبودة. فلم يجدوا الحاسوب ! فيالها من نعمة النسيان فالحقيبة الآن تجوب شوارع بغداد في بطن الحافلة. فمثلما نسيان هوية صديق كان بسبب غياب العقل الشاعري فنسيان الحقيبة هناك كان بسبب الشرود الذهني. فكلتيهما إذن كانا بسبب غياب الفكر!

وهذا أمر خطير ومفيد كما رأينا! تركوه يأن بصوت منخفض ويتمتم بكلمات غير مفهومة. لمّا وصل صديقاه الأثنين بعد ١٠ دقائق كانت الروح قد غادرت الجسد وكان مسجى على وجهه ومختلطة دمائه المسيلة ببركة مياه الأمطار الغزيرة.

في صباح اليوم الثاني كانت الشمس مشرقة جرى له مراسيم تشييع جثمان مهيب وكانت نادية واقفة مع نادية العجوز ! تميزها ثياب الحداد السوداء منتصبة وعيناها تفيض بالدموع. وسط صخب الساحة والحزن النازل عليها من السماء ..

بعد خمس سنوات تم تصوير فيلم سينمائي إنتاج سينما العراق الوطني. باسم (رقصة الموت والآم العجوز). وتم الترجمة الى اللغة الأنجليزية بعنوان :

(Dance of death and old pains)