loader
MaskImg

السرد

يعنى بالسرد القصصي والروائي

أعمار مهشمة

breakLine

 

 

حسن رحيم || قاص عراقي

 

لم يكن هذا اليوم يوما اعتياديا بالنسبة لـ"عماد" فهو اليوم الأول من إجازته السنوية، التي تمنحها له الشركة التي يعمل فيها، وهذه الإجازة بمثابة استراحة مقاتل كما يقال، يعيد فيها العامل نشاطه، وعلی عماد ان يتمتع بها ويعيد برمجة حياته، فقد مضی أكثر من عشرين سنة في هذه الشركة يعمل بجد وإخلاص وكأنه ماكنة لم تتوقف عن العمل طيلة هذه السنين، فهي مصدر معيشته هو والأفواه التي يطعمها. 
السبت 7/1/2008
في مثل هذا اليوم أتم عماد عقده الخامس، يا لها من مناسبة تعيد إليه شريط حياته الممتلئ بالشروخات، لكن لا يهم هذا، وعليه أن يأخذ قسطا من الراحة، ويتمتع بإجازته السنوية، انه يوم عيد ميلاده، ويا لها من مصادفة جميلة، فأول مرة، منذ بدء عمله في الشركة، تكون إجازته السنوية مع ذكری عيد ميلاده، وهو متواجد في البيت، وعليه أن يستغل هذه الفرصة للاحتفال بهذه المناسبة، أنها فرصة ثمينة، فليحتفل كما يحتفل خلق الله الموسرون، ولم لا!! فهو من خلق الله ولا فرق بينهم وبينه سوی الفارق الطبقي اللعين، الذي اضطره للعمل في سن مبكرة، حاله حال العشرات من العمال الذين يعملون معه في الشركة، والذين يكدحون بظروف قاسية، والمال يصب في جيوب صاحب الشركة وشركائه، والذين يزدادون غنی كل يوم، علی حساب كدح العاملين . . . 
الأحد 8/1/2008
أتذكر أن أمي -رحمها الله- قالت لي: إنني ولدت في اليوم الذي جری فيه الانقلاب علی الزعيم، إنها مفارقة عجيبة، فهذا اليوم اختلف الناس فيه، فمنهم من عده يوم شؤم، ومنهم من عده يوم سعادة وفرح، وعلی أية حال فهو اليوم الذي ولدت فيه، ولا حيلة لي بذلك، سواء كان يوم بؤس وشقاء أم يوم سعادة . 
جلس عماد، وهو ينفث دخان سيجارته بنشوة، وأمامه قدح الشاي، يعيد بعضا من حساباته، ورأسه سارح، وهو يعد العقود الخمسة التي قضاها، متذكرا أول يوم دخل فيه المدرسة، وتشجيع أبيه له، وحثه علی التفوق، وكثيرا ما كان يعده أن لا يحرمه من أي شيء يطلبه، وسيكون الأفضل بين أقرانه عندما يجتهد في دراسته. 
دخل في دوامة إعادة شريط حياته وذكرياته، وغاب في خيالاته، وكأنه يشاهد فلما سينمائيا، كان هو ذاته المخرج والمؤلف والممثل فيه، وهو المشاهد الوحيد لهذا الفيلم غير المترابط في حبكته، والذي نقله إلی خارج وجوده الفيزيقي، فاصبح روحا أثيرية سابحة في بحر من الذكريات، حتی أن أحداثا مرت عليه، طفت علی سطح مخيلته، كان قد نسيها منذ طفولته، عادت للظهور ثانية هذه المرة، لقد عاش حلمه اللذيذ في حالة تجل أشبه ما يمر به المتصوفة. 
بقي علی هذه الحال متمتعا بمشاهدة هذا الفيلم، وغارقا بتأليفه وإخراجه، وهو يتسلق سلما غير ممظور من النشوة، ويعيش في عالم لا مرئي من الخيال، يبعده عن التفكير في إنهائه العقد الخامس من عمره، متشبثا بطفولته، متذكرا أباه الذي لم يرد له طلبا... وهو في هذه النشوة الفائقة والسياحة الروحية، استفاق علی خربشات القطة في المطبخ وصوت ارتطام شيء في الأرض... نهض من جلسته منذهلا ليتوجه الی المطبخ، مصدر الصوت، فرأی أن القطة تبحث عن طعام تسد به جوعها . فما كان منها ألا أن هجمت علی الأطباق الزجاجية فسقط احداها، والصوت الذي سمعه كان ارتطام الطبق الزجاجي علی ارض المطبخ وتهشمه، ظنا منها ان فيه ما يسد جوعها، نظف أرضية المطبخ من الزجاج المتناثر، ثم عاد إلی جلسته، أشعل سيجارة، وأخذ نفسا عميقا منها، ليعيد توازنه، وما هي إلا بضعة دقائق وقد أعاد رأسه الشريط السينمي، بنسخته بالأسود والأبيض، فتذكر أباه الذي غادر البيت متوجها إلی جبهة الحرب ولم يعد، وكيف أنه عمل في احد الأفران، كي يعيل عائلته بدلا من أبيه، وتذكر (سعاد) تلك الفتاة التي كانت تبتسم له كل صباح عندما يناولها أرغفة الخبز، سعاد التي منحت ضحكتها له طاقة إيجابية كان يكتنز جسده به قوة ورجولة وهو ابن السابعة عشرة . وكيف أنه تابعها في يوم شتائي قارس ليفاتحها بحبه لها، وكيف تجمهر عليه المارة ليكيلوا له الضرب المبرح بعد أن استنجدت بهم منه... 
شعر بثقل جسده هذه المرة، وأيقن أن سقوط الطبق وتهشمه دليل علی فأل سيء، وضع يديه علی رأسه، أغمض عينيه، وكان الدوار قد أحاله الی خشبة جافة طافية فوق الكرسي، صاح بصوت أجش: "أيتها القطة اللعينة، يا وجه الشؤم، ماذا فعلت بي!!"... 
أزاح الكرسي، ونهض متوجها إلی المطبخ، رأی أن الأطباق جميعها قد سقطت من الرف وتهشمت، كانت خمسة أطباق، وهي بعدد العقود التي عاشها، قال مع نفسه:
"ما الأعمار إلا مجموعة أطباق تتهشم".