loader
MaskImg

السرد

يعنى بالسرد القصصي والروائي

أفندينا

breakLine

 

 

 


محمد فيض خالد/ كاتب مصري


سَئمَ إلحاحهم الممجوج ،  وكرِه شَطارتهم الزّائدة :" حُطّ شوية فول ، وكتر الميه علشان ناكل كلنا يا فندي " ، لا  يمرَّ الأمر عليهِ مرور الكِرام دونَ أن يعبِّر عن سَخَطهِ ، يتخلى عَنْ قِناع الرزَانة  ، يقول منفعِلا :" وأنا مالي ، الله ما يقسم لكم تاكلوا كلكم"، مُنذ أن اسَتقرّ في القَريةِ بعد أسفَارهٍ الطِوال ، التي جَاب َ فيها رقاع المحروسة ، عَركته الذُّنيا عرَكَا بلا فائدة ، لم تطمس الحياة ما ظنّ نسيانه ، عِزه الباذخ ، جَاه الأسرة الارستقراطية الذي ذهب كما ذهبت أطيانهم ونسلهم من قبلِ ، المال والمنصب والعائلة ، كُلّ هذا ولى ولن يعود ، يُنَاوشَهُ الحنين كلّما لمسَ بكفّهِ المرتعش الجدران ، ترزح تحت نَيرِ الرّطوبة، هي ما تبقّى له من ماضٍ عَريق ، يُطالِعها في حِنوٍ وكأنّها تنَظر إليهِ مُستغيثة من قهَرِ الزَّمان ، حَاولَ أكثرَ من مرَةٍ إيهامَ نفسه :" استطيع أن اقبض على بقايا الزّمن الهارب "  ، تفتر شفتاه عن ابتسامةٍ فَاترةٍ ،  يَضربُ بفأسهِ حديقة منزله ، هي جنّته ونعيمه ، بين أعوادِ الرِّيحان ، وبجوار الصّبارة الكبيرة وشجرة المانجو العجوزة سلواه ، أحيانا يَنشجُ باكيا ، تُصارعه أحاسيسه ، عجز الشيخوخة ووهنها ، جفاء القريب والغريب ، لم يظن قط أنّ الظروف ستلجئه لمثلِ هذا ، يهَرعُ ناحيةِ غرفةٍ في أقصى ممرٍّ مهجور ، تمورُ في أغوارهِ مشاعر متأجّجة ، يتحسّس صندوقا خشبيا تكسوه غلالة خضراء مهترئة ، يستمع مُنزَعِجا لصَريِر خشبه يَنخرهُ السُّوس ، يَضربُ بيده وهو يمضغُ الغيظ ، وكَأنّهُ يقول : " على رِسلك أيّها السُّوس ، ففي هذا الصندوق بقايا عزٍّ تليد ومجدٍ عتيد" لكن هيهات ! ظَلّ يحتفظ ببقايا قديمة، مُتعلقات أمه وأبيه حَشَر بها الصندوق ، في صوتٍ ممزّق يسترجع هامسا ذكريات الطفولة ، يمرر يده يتحسّس برفقٍ فوق وجوه صغيرة ، صورة تجمع العائلة في أوجّ مجدها ، يذرف الدّمع السّخين ، وإن كانت كُلّ خلجةٍ من خلجاته تطرفُ فرحا ، يعيد كُلّ شيء مكانه ، يهمّ نَشطا كأنّ شيئا لم ؛ يرمي الصندوق بنظرةٍ باردة ، يزمجر في تشظي  ، شَابَ صوته تذلل قائلا :" باع كُلّ شيء لم يدع شيئا للزمن ، ما كان أحوجنا للحكمة والتعقّل " ،كتَاجرٍ ذَاقَ طعم الخَسارة ، يظلّ في صَمتهِ دقائق ، وقورا لا يتهيّب الحياة ، قَبلَ أن يعودَ ثانيةً لمعَاناةِ يومه بين أولئك " الأوباش " هكذا دأب على تسميتهم ، لذكرى أمه مذاقا مختلفا ، يرى بقاياه في وجوهِ عجَائزِ الدّرب  يبكين أيامها ، وينعين كرمها وسخاء يدها ، تتململ " حسنية العرجا" في جلستها ، تقول مولولة :" الله يرحم أمك الست الكُمّل ، بنت الأكابر " ، يرميها بنظرةٍ دَامعة ، تنَحَدرُ قطرات ساَخنة من بينِ أهدابهِ الشُّهب ، في صَمتٍ يبتلع ريقه المتَحجِّر  ، ضاربا بعكازهِ ، يشيّع الأفقِ المُلتهب تحت ضربات شمس المغيب ، ينصَهر وجدانه كمدا؛ يرى نفسه واقفا خَلفَ " قدرة الفول " تُروّعه أطباقهم الصَّدئة ، ويَشمئزّ قروشهم المتآكلة، وألسنتهم التي تنطق بالسَّخف  ، لكنّه الزمن وغدره ، نأى بهِ وحيدا رهين ثالوث الفقر والشَّيخوخةِ والوحدة ، يُغَالِبُ مشاعره المكبوتة، يرعى هموما في نَفسهِ تنوء بحملها الجبال ، سريعا يذيب الثَّلج المُلتَف حَولَ قلبهِ ، يحتقن وجهه بالدَّمِ كشّابٍ في العشرين ، يُردِّد في زهوٍ أغاني" أم كلثوم وحليم " ، يُدير المفتاح في كاَلونِ دُكَانهِ ، يَقفزُ من فوقِ عارضتهِ ، ينفض الترّاب العالِق بالأرففِ، دقائق ويضجّ الزّقاق بأبنائهِ ، في تلصّصٍ يحوموا كالغربان ِمن حولِه ، حتى إذا اطمئنوا جانبه شرعوا في التقاط بقايا اللّب والسُّوداني وأوراق الطوفي، يطالعهم في إشفاقٍ، سُرعان ما يتَحوّل لصياحٍ ملتاع :" عاملين زي الأرانب ، تولدوا  وترموا لمّا مليتوا الدرب " يحيط نفسه بهالةٍ من الوجَاهةِ ، إنّه سلسل بيت عِزٍّ ونعمة ، حتى وإن جَارَ عليهِ زمانه ، وما فتح دكانه إلّا كُرَها في التّبطّل  ، ذاتَ صبيحة ، صَحَا الدّربُ على وقعِ أرجلٍ ، نساء ورجال أغراب " أوتومبيل " يتوقفُ في الفسحة ، صورة الحزن تكسو الوجوه المشبعة بالنعمةِ ، قالت " عائشة العايقة" في حُزنٍ :" لقد مات الأفندي ، اتصلَ بهم سعداوي الخفير من بيتِ العُمدة ، وهؤلاء أهله قدموا من مصر " ترقرقت مدامع  أبناء الدّرب ، تلمظت حُنُوكَهم ؛ تنعي الأفندي وحلواه.