loader
MaskImg

السرد

يعنى بالسرد القصصي والروائي

أكرم الطيّار

breakLine

 


عبد الكريم كاصد/ شاعر وكاتب عراقي

 


كلّما مررتُ في الشارع الذي يسكن فيه، طالعتني عصافيرُه وهي تحتشد خلف شبّاكه العريض بأصواتها الحادّة، وخفقِ أجنحتها الذي لا يهدأ.
قيل لي إنه مقيمٌ عراقيّ، وإن محل الإلكترونيات الذي يقع أسفل شبّاكه يعود لمقيمٍ عراقيّ آخرَ باعثٍ على الفضول أيضاَ.
وفي رحلتي الثالثة إلى مرّاكش، قادني الصديق طه كأعمى إلى بيتِ هذا العاشق.. عاشق الطيور: أكرم.
طرقنا باب شقته فلم يفتحْ، فأمضينا وقتاً لدى العراقيّ المقيم الآخر الذي قابلنا بشكواه من جور الدهر حتى كاد يصرفنا عن "أكرم" هدفِنا المعلن، ثمّ عدنا إلى الشقة لنطرق بابها من جديد.
أطلّ أكرم علينا بوجهه الطفوليّ متردّداً.. وجلاً ولكنّه سرعان ما تجاوز تردّده، فدعانا أن ندخل لنرى طيوره التي احتشدتْ في غرفةٍ في الطابق الثاني الذي صعدنا إليه على سلّمٍ حجريٍّ قديم.
لم تفزع الطيور حين فتحنا الباب، وإن لم تفارقْ حركاتِها المسرعةِ وطيرانَها الذي لم يتوقف في غابة الغرفة التي ضمت الطير، وأنصاب الطير من علائم تشبه التلال، وأحجارٍ شبيهةٍ بالأشجار، وأقفاصٍ لأفراخها، وآنيةٍ للشرب، وأخرى لحبوبٍ تفضّلها الطيور.
وحين قرّب أكرم قفصاً منّي فلم أستطع أن أرى الأفراخ في ظلمته، فتح باب القفص وحمل أحد الأفراخ، وكان أبيضَ منقّطاً بالسواد، على راحته اليمنى ممسّداً ريشه بأصابع يده اليسرى، ثمّ قرّبه من شفتيه ليطبعَ عليه قبلةً.
قلتُ له:
ـ يا أكرم، أنت تربّي الطيور، والآخرون يربّون الكراهية ويسفحون الدم. ما أشدّ الفارق! 
وحين سألته:
- وهل تبيعُ الطيور؟
ردّ، دون أن يستنكر سؤالي، هادئاً مطمئناً لحبّه الذي لا موضع لشكّ فيه:
- كيف أبيعها وهي عائلة واحدة مثلما هي عائلتي؟
قلتُ له:
ـ وهل كلّ هذه المئات من الطيور هي من نسل  طائرين فقط؟
أجابني:
- لا.. ولكنها من نسل طيور، جلبتها زوجين زوجين، وقد لا تتعدّى الثلاثين طيراً.
ثمّ حدّثني عن ألفته معها، وكيف أنه يميّز من أصواتها، غضبَها، وشبقَها، وغيرتَها، وحنانَها، واستقبالَها له، بل إنه يحدس من صوت الطائر، هل الطائر راغبٌ في البقاء على راحته، أم أنه يودّ التخلّصَ منها.
قلتُ له:
- ما سرّ هذه الأسطورة التي تقول إنك حين تخرج إلى الحديقة أحياناً، تتبعك طيورك كالساحر؟
قال مفضياً ما في قلبه، دونما تفاخر، أو التواء، أو تباهٍ:
- المسألة بكلّ بساطة، هي أنني كنتُ أقصّ أجنحتها فلا أخشى فقدانها، لكنني تخليتُ عن ذلك بسبب حبّي الشديدِ لها. 
- وما تفعل حين تمرض الطيور؟
- أحضرها للطبيب لعلاجها غير أنني حين يئستُ من علاج الأطباء لطيوري، قررتُ أن أعالجها بنفسي، من خلال اطّلاعي على الدوريات الطبية التي اطلعت عليها.
- وبأيّ لغة تقرأ هذه الدوريات؟
- باللغة الإنكليزية.
لا غرابة في ذلك، فأكرم عاش زمناً في الولايات المتحدة، وتزوج من أمريكيةٍ، له منها بنتان، وهو بالإضافة إلى ذلك، كان طيّاراً صرفوه من وظيفته بعد 11 سبتمبر، فاستبدل طيران الطيور بطيرانه.. وأيّ طيور!؟
- طيور الحبّ.

 

* من كتاب "صورة مراكش" الصادر عن مؤسسة أروقة 2017 ، القاهرة.