loader
MaskImg

السرد

يعنى بالسرد القصصي والروائي

أمام العدو لم أستسلم

breakLine

 


غازي الذيبة | شاعر وقاص أردني


ليس لأني مصاب بالنصر، فكلما نظرت إلى جهة الغرب، هناك حيث مأوى العصافير التي سقسقت في صباحاتها مع تمتمات جدي، وهو يحمل فأسه إلى الحواكير ليشق التراب ويبذر فيه روحه، كنت ألمح نجمة معلقة في السماء، تنادي عليّ لتنزرع على أكتافي، وتطلق ريشها لتوقظ فيّ حرارة التحليق. 
الحر لا ينهزم..
الحر يبقى محتدما مع ذاته في اكتشاف المدى الذي لا يمكن لك الوصول إليه. أنت عبد للعداء، ترسف بأغلالك، وتتناول أحقادك على الحياة معها، على مائدة الكراهية الأزلية. 
لكم رأيتك تحاول سرقة حلمي، لن تصبح أحلامي في رأسك أحلاما، ستظل كوابيس تحمل لعنتك التي انتزعتها من خرافات وجودك، وأنت مُجلل بالخيبة والعار الأبديين، وستزول ملامح خطواتك المرتجفة بالأبيض والأسود، حين خرجت من تيه البحر في سفن العبيد، لتهبط على شواطئ أرضي.
أيها العبد، عبد جبنك، وعارك وجرائمك وخرافاتك.. 
كيف تغمض عينيك لتهنأ بالوسادة، بينما تطاردك أرواح شعبي وهم يُعدون القمح للعصافير، ويبذرون الحقول بعرقهم، وأحلامهم ويراغيلهم؟

أترى تلك الطرقات الطويلة المتعرجة فوق التلال؟ مشاها أبي، وتعثر في ركضه خلف حجلها، وما تزال تنادي على الحجل ليقترب من يد الأب الذي حفظ عن ظهر قلب كل حجارتها وذرات ترابها وأغصان أشجارها، ودروبها وما ينبت في شقوق صخرها، وقطرات نداها التي ترقد على صدر زهورها؛ حفظها، ورتلها في أعراسه وأناشيده وهدهدات أطفاله، وتعاليمه في الحب والغناء.
لا تعتقدن لوهلة بأني نسيت شجرة الجميز هناك، شجرتي التي نكشت حولها بيديّ وقلبي وعينيّ، ومنحت الطيور وما يركض فوق أرضي من كائنات لا تعرفها ولن تعرفها، حتى بعد هذه السنوات من سلبك لأنفاسي، الحَب والماء المعطر والحُب فماذا منحتها أنت؟ 
نعم، سيظل قلبك الأسود منقبضا، كلما سألك حجر أو تراب قبر: من أنت؟
وأنت بالطبع، لا تعلم أن تلك الجميزة زرعها نبيّ، تعرف لون دمه فقط حين سفحته في ليل ظلمتك الأبدي. أما أنا فتشربت تعاليمه، وعلقتها في قلب أبنائي، ليحفظوها، ويندهوا على البشرية بها، لتعلمهم الجمال والسمو، بعد أن لوثت بأنفاسك المريضة هواء الحياة، وزَرَقتهُ بإبر سمومك المشحونة بالكراهية والقتل والعداء.
حين أخاطب طيوري فوق أشجار بيتي، وأحلامي التي ما تزال تنبض بصوتي وهو يشدو للتلال، وأحلامي التي ترتفع لتصبح معجزة في دم طفل قتلتها أمام الطيور، وارتجافة نعش شهيدة أردت أسقاطه أمام الله، لتمحو معجزتي التي تشير إليك: أنت قاتل جبان، فإني فقط أمنح التاريخ فرصة إعلدة تنقية وجهه الذي لطخته بكراهيتك.
لا، لا يمكنك أن تفهم مفردات لغتي، ولا أناشيد طيوري، ولا تراويد جداتي، ولا مواويل أجدادي، ولا تلعثم أوهامي أمام اعتقادها بأنك قد تستيقظ من قمامتك، وتتطهر لتعترف بجرائمك.
..
عندما أضع كتابا في حقيبة ابني وهو يمضي إلى المدرسة، أو أدوزن وترا لأعتّق أغنية، تسهر معي على حقول الروح، أو حين أنشد لأطفالي عند بزوغ كل واحد منهم على هذه الارض: نشيد فلسطين، وأعلمه دستورها. ستكون أنت في مكرهتك الأخلاقية، مستيقظا مع بندقيتك، لاقتناص واحد منهم.
كل يوم نهجئ اسم فلسطين لأطفالنا، نأكل ونشرب ونغضب ونهدأ؛ ونحن نحتفظ بأبجديتها بين أجنحتنا. نبكي ونضحك.. نرقص ونتشاجر، وهي تمشط شعرنا. ننفى ونسجن ونعتقل ونقتل، لنجدها في الزنازين معنا، في الاستلقاء تحت الأشجار معنا، في خيوط الدم النازفة من أجسادنا معنا، في رحيق أزهارنا معنا، في مواوييل حدائينا معنا، في قصائد شعرائنا معنا. لا تغيب عنا  ولا تنام، ولا ترتجف، ولا تمشي مسلحة في ليلها ونهارها، تعيش حياتها كاملة، وهي تعرف أن القاتل مستيقظ، بتربص بها، ليسرق تضاريسها من التاريخ، وليعدم دخان طوابينها وهو يعطر أرواحنا، ويزهر في سهولنا أناشيد حياة، وأغاني فحر وحرية تمشي على قدميها في الدروب التي تسجنها بأسلحتك المرتجفة.
تنطق طفلتي اسم فلسطين هكذا: "فلستين"، الإسم الذي نطق به أسلافي من قبل، إنه الإيمان بحقنا في هواء وطننا المعلق بالبحر، وطننا الذي يحمل في صوت ابنتي تاريخ جداتي النبيلات، وهن يعجنّ العنب في جرون النبيذ، بأقدامهن المعطرة بالزعتر والمريمية.
هل عجنت جداتك العنب في الجرون، لتحضير النبيذ البيساني أيها العدو؟
هل عصر أجدادك ثمار الزيتون في المساءات الظليلة عند أطراف القرى؟
كل حجر هنا، يحفظ عن ظهر قلب، زيتي وزيتوني ونبيذي.
يحفظ أسماء المواسم وتفاصيل انعتاقها في الحقول. 
يحفظ حتى أسماء رياش الطيور، ريشة ريشة. 
أما أنت، فماذا حفظت، وماذا فعلت للطيور والكروم والسناسل والمآذن والقباب والكنائس؟ أألصقت على أبوابها أرقاما، واستخرجت لها أسماء من بئر اوهامك الضحل، وبنيت مساكنك فوق تراب يطردك حتى غباره عنه، تراب يلفظ قمامتك منذ وطاته بدباباتك المجنزرة.
..
يا عدوي..
لم أكن أريد مخاطبتك بالعدو، لكنك أنت من نحت هذه الصفة في قلبك وظلالك، عندما جرفت أشجار الزيتون والدوالي والتين في كرومي وبساتني، وأنت من يعلن عن عدائه لي بإهراق دمي وسلبي أنفاسي ومحاريث حقولي وبيادر سهولي.
لم أرد عدوا، فأنت لا تعلم أن تاريخي قبل أن تتكفن بخرافاتك وتسير في ظلمتك لتموت، كنت احمل الدواء للمريض، وأوزع الخبز على الجياع، وأنثر الحبوب في الجبال للطيور، وعندما أتيت، سرقت مني الدواء والخبز والقمح، ورسمت صليبك المعقوف على قمصانك، وتسلحت بالموت، وبقيت عدوا، مع أني لم أقتل أحدا من أبنائك، لكنك أنت من وشيت بيسوعي، وصلبته، وأنت من نثرت السم في حقولي، وسرقت زرقة بحري، وأرجوان تاريخي.
أنا إنسان طبيعي، أحب وأكره وفق مقتضى الحال، أما أنت، فتتصلب عظامك تحت سمائك الملوثة بقنابل الغاز المسيل للدموع، وقنابل اليورانيوم المنضب، وبراعتك في خلق مكائد مبتكرة لحصار أخوتي، وتقطيع أوصال أرضي، ثم تصفن في عدمك وقنابلك النووية، باحثا عن طريقة تهدم فيها أعشاش طيوري، وسرقة ماء بئري وقصف زيتوناتي، وتلويث الحياة بأحقادك وكراهيتك، حتى لنفسك.
حين أتيت إلى أرضي عابرا تيهك الأبدي، التقطت لي صورا باهتة، ثم محوتني من غباشها، وأودعت قلبي في سجن روايتك المسلوبة من تاريخي. 
حتى أسماء نقودك، سرقتها من جدي.
وثيابي، وجروني، ورحاي، ولون عيوني، وطعامي، وكتبي، وصلاتي، وجراري.. سرقت كل شيء مني، ثم أتيت من تيهك، لتسرق أحلامي الملونة بسقسقة الدوري، معتقدبا بأنك ستمحوها، فجيّشت ظُلمة العالم، لتنشر قناصيلك في الجبال، وتصطاد العصافير وصقور الأعالي من أبناء شعبي، وسلّحت الجبال والصخور، وبنيت قلعة مؤللة حرستها بالخرافات والأساطير فوق ترابي، ووقفت مرتبكا أمام راية الموت وروايته.
نعلم بأنك لا تملك تاريخا، وأن أنبياءك الذين قتلتهم ليسوا لك، وأن صورتك التي نصبتها أمام خيامك وكهوفك تفضح زيفك، فكيف لمن تاه وانطوي في النسيان، امتلاك كل هذه الحقائب المحشوة بالقصص المسروقة والتاريخ المدهون بالكراهية، والقبعات التي لا تغطي عورة رأس؟ كيف؟ 
لم أرك، لم أكن بحاجة لرؤيتك، ليس لأنني غير مبال بوجودك، وبما تنتجه من قبح، بل لأنني منشغل عنك بحقولي، أبحث عن بذرة لشجرة، سرقتها يوم وطئت بقدميك التائهتين أرضي، وصورتها خاوية يعشش فيها الفراغ، بينما كنتُ مستلقيا قربها تحت عريشتي؛ تلك التي غرس جدي داليتها قبل أن يولد اسمك على جنزير دبابة أو قذيفة فسفورية. 
لن تعرفني، مهما حاولت ابتزاز التاريخ، فثمة شقوق في أرضي، يمكنها أن تسمع أنفاسي حتى لو كنتُ في آخر الأرض، شقوق لن تستطيع كل أجهزة التعقب المجنونة بتخريب الحياة، التعرف عليها، أو ردمها.
هناك صخرة محدودبة على طرف حاكورتي، كانت جدتي تغني لها، عندما سألتها لماذا تصدحي بصوتك العذب لصخرة، ابتسمت وطارت الصخرة إلى السماء لتوشوشها، ثم عادت لتقول: إنها مزروعة هنا منذ بعث آدم إلى هذه الأرض. 
أين صخرتك؟ 
أين جدتك لتحكي لك عن الصخرة؟
أين طريق حقلك؟
أين أصابع المحراث المثلمة في عرق سنسلة حاكورتك؟
لا شيء لك هنا، فقط أنفاسي وصوت اليرغول الذي يصدح في قلبي منذ استيقظ أول راع في بلادي قبل الفجر، وركض إلى حظيرة أغنامه ليوْدعها قلبه. 
لا أشجار زرعها أجدادك في هذا البر المترامي على طرف البحر الأبيض المتوسط، أنت مجردٌ حتى من الصورة التي محتك عن سطحها، وغريب حتى عن اسمك الذي سرقته من لغتي، ومحتل بالكراهية والموت، حتى وأنت تخترع دواء لمرض ما.
..
هنا بئر حفره جدي السابع، هل لك جد سابع هنا؟
وهناك تلة سوّرها جدي، وترك بابها مفتوحا للسائلين والطرّاق، هل لك تلة هنا بقلب مفتوح وذراعين تستقبلا الهواء بمودة قروي جميل كجدي مثلا؟
في طرف الصخرة ارتفعت شجرة تين، حين رأيتها؛ صورتها معتقدا بأنها كائن سماوي خرج من كتابك المقدس. صحيح أنني لم أشك للحظة واحدة بأنك سرقت حتى كتابك المقدس مني، وأعدت تلفيقه بما لا يليق بكتاب مقدس، لكنني ما زلت احتفظ بنسخته الأصلية التي كتبها أجدادي قبل أن تسقط علينا من العدم ومختبرات الموت المحتلة بالزوال.
حين خرج جدي إلى حقله في صباح لا تعرف أنفاسه، كان يحمل في حزامه صرة بذار، نثرها بين الشقوق، فنبتت حياة جئتَ بعد ألف جد لي لتسرقها مني.
جدي، كان يشذب الأغصان، ليصنع منها أدواته المنزلية وسفنه، ويجوب بها البحار، بينما كنت أنت تتلبد في الكهوف والغابات، متربطا بفريستك التي ما إن تقترب منك، حتى تبتعد عن رائحتك العطنة، محتفظة بما في رئتيها من هواء نقي. 
..
قلت ذات مرة للشجرة: كيف تبسطين كل هذه الظلال لي؟ فألقت بثمارها عليّ، وابتسمت وهي تشير إلى قلبي. 
أنت لم تتعلم من الشجرة، لم تعرف كيف ترسم الكنعانيات عروق الورد على ثيابهن. لم تستطع حتى اليوم حل تلك المعادلة البسيطة لسقسقة العصافير فوق العرائش، وهي تصغي لحكايات الجدات، وتنهدات الرجال العائدين من حقولهم.
أنت عدو تافه، كنت أتمنى عدوا جيدا، يفهم في التراب والأشجار والصخور، لكن، ماذا أفعل للتاريخ الذي جعلني أواجه عدوا مثلك، لا يفقه معنى الزيت، ولا يعرف لم يشدو الدوري على الأشجار.
لم أكن لأتخيل، لا أنا، ولأ أسلافي، أن ثمة عدوا يمكن لقلبه القاسي أن يهدم بيتا، أو يقتل شجرة، أو يطلق النار على طفل، أو يُسوّر مسكنه بسور قلعة، حتى لا تتسلقه السناجب ولا تقف على أطرافه الطيور، لكنك فعلتها، وجلست وحيدا تحت خيبتك الأبدية.
أنت قصفت أغصان شجرة التين، فأبكيتها، وهشمت الزيتونة النائمة في عرق الدار، فأدميت قلبي الذي زرع التينة وروى الزيتونة حتى طاولت سقف العريشة.
لماذا تهشم أشجاري؟ ما الذي ستزرعه يدك المقطوعة في أرضي؟ وماذا ستقول لأحفادك عن الأشحار؟ ما هي اللغة التي ستجمعهم فيها تحت ظلال تينة، خلعت قلبي بعد أن قصفتها؟
كنت أتمرأى على سطح ماء الجدول في الصباح، وأمضي إلى البساتين، وأنت تبني معسكرات الموت في طرف حقولي، لم أنتبه لك، لأنني كنت أعتني بالحمام وحيوانات الحقول، وأزرع البامياء واللوز والسفرجل والبرتقال في الطرقات، لأطعم الجائعين وعابري السبيل. 
هذه أرضي، تعرفني منذ دهور، مرويٌ جبينها بعرق حراثيها وناثري البذار في أثلامها، ومسمّدي بساتينها، الذين صلّوا لتتساقط الأمطار فوق حنائها. لن تجدي رصاصتك المريضة بالموت لاقتلاعها مني، ستظل صوري وأنفاسي هنا، في المنزل الذي سرقته، وفي الحقل الذي خربته، تتحرك في كل قرنة  تتحرك فيها مورايا خوفك ورعبك من رائحة روحي فيها، فتلطمك حجارتها وتصفعك شبابيكها وتطرقك أبوابها وترجمك خوابيها وتركلك مساطبها وتُتعثر أدراجها
ستحتاج إلى دهور اخرى، كي تستطيع صعود درجة من درجات منزلي الذي سرقته دون أن تتعثر، لانها لا تعرف خطواتك، وستظل لا تعرفها.
أعلم بأنك لا تريد تذكر اليوم الذي حاولت فيه النوم في سريري، ووضع رأسك الثقيل على وسائد طرزتها جدتي قبل عرسها، لأنك تتشبث بالنسيان، وتحوله إلى دم يسيل بين ساقيك، وأنك تتشبث بفتنة الموت الذي رسمته فوق تراب بيتي. 
أعلمُ أيها العدو، بأنك ما تزال تخفي صوري التي تتحرك في أبهاء منزلي، وتحاول إغماض عينيك حتى لا تراني فيها، أتجول بأطيافي بين جدران بيتي، وفي هوائه الذي يصرُّ على الاحتفاظ برائحتي، وبدقة أنفاسي وهي تصدح بالمواويل في العصاري والمساءات الرشيقة، بحضور أشقائي وشقيقاتي، لتبادل الحديث حول المواسم والأشتال والثمار.
حين أمر قرب حقلي، أسمعه ينادي عليّ باسمي العربي الفصيح، أما أنت، فأخبرني كم لغة سمعت بها اسمك الغريب ينادى عليه قرب حقل من حقولي التي سرقتها؟
أعلمُ، أن كل هذا الزيف، لم يعد له مكان، وستجد عظامك بعد قليل، أقول بعد قليل، مسحونة في غيّابة النسيان الأبدي.