loader
MaskImg

السرد

يعنى بالسرد القصصي والروائي

أميرةُ الحكاية

breakLine

 

ريتا عودة | قاصة فلسطينية


- هذا هو. أترينه؟
أقتربُ منها بتوجس. يكادُ رأسي يصطدم برأسها.
- ترين هذي النخلة؟ إنّها هي.
تتصاعدُ هواجسي مع البخور المتصاعد من الموقد الجاثم بيني وبينها.
زمّت شفتيها.
- نافذتُهُ مغلقة من جهتك ومفتوحة من جهتها.
نقبّتُ عن المرآة داخل حقيبتي. نظرتُ إلى وجهي على صفحتها الضبابيّة.
كان ممتقعًا برعب. دسستُها بحنق في قعر الحقيبة.
مدّتِ العجوز يدها نحو حقيبتي بتلهف. تناولتُ رزمة نقود وأودعتها صدرها النافر. عادتْ تنعقُ.
لم أعد أرى منها سوى شفتين تتحركان كقطار داخل كهف رعب.
حقًّا، لا شيء حقيقي سوى ما هو مرعب!
أحقًّا خان الوعود والعهود؟! أما كنتُ سنونوته، ولؤلؤة، بحره وأميرة الحكاية؟! أيعقل أن ينقلب الحلم الشهيّ إلى كابوس مرعب؟!
ويح قلبي ما أقسى الطعنة. اللعنة على الذكريات. كانت رياءً؛ مجرد رياء! ما كنتُ آسرة قلبه ولا ندى أزهاره. ما كنتُ الأنثى ولا أنثى سواي في مملكته! آهٍ.. كيف أحتمل نزوح قبائل الحزن إلى قارة أفكاري؟! كل كلماته التي ظننتها حبات خرز وعلقتها على جيدي كالعقد أتباهى بتفرّدها، أما كانت إلاّ نفاقًا! آهٍ أيها القلبُ المُثقل. ابْكِ. اصرخْ. تمرّدْ.
تسلل تيارٌ بارد من النافذة المفتوحة على الجبل الأجرد. رحلت نظراتي إلى الحديقة. لم أر سوى أوراق شجرة تين صفراء مبعثرة فوق أرض موحلة.
- ما بكِ؟
= لا شيء.
- فهمتِ كل شيء؟
= أي شيء؟
- بالله عليكِ استيقظي لحظة من أوهامك لننهي الحكاية.
اختزلتُ حزني:
= كلّي آذان صاغية.
- حسنًا. خذي هذا الفنجان. اصنعي له قهوة واسكبيها هنا. ستذوب النخلة في القهوة، وحينَ يرتشفها يَبْطل تأثير الأخرى على قلبه. فهمتِ؟
أنتظرُ عودتهُ بتحرّق. الانتظارُ صخبٌ مبعثه القلق. هكذا كتبَ (رولان بارت)، وهكذا أشعر الآن. قلبي نحلةٌ نزقة تقفز فوق أغصان الانتقام.
ها هو يقرعُ الباب. آه لو يدري أني أدري! أفتحُ الباب. كلّ المعادلات أصبحتْ مستحيلة هذه اللحظة. ما عدتُ أراه سوى شبح مرعب لرجل لم أعد أشتهي حبّه عن ظهر قلب. رغم أنف النزف أتمالك ثورتي. تحاصرني عيناه. أفرّ من بريقهما. يطبع قبلةً على جبيني. آهٍ كيف استطاع أن يسقيني الخلّ ويلدغني في عقر قلبي دونما رحمة؟! جراحي المفتوحة على مصراعيّ الألم تصرخ في وجهه. تلتفُّ يداهُ حول عنقي. تتملكني برودة. يا له من ماكر. أيشتري خنوعي بعقد من اللؤلؤ؟!
- كلّ (فالنتين) وأنتِ عيدي.
يغرّد، فأصمّ أذنيّ عن نغمة الحنين في همسه.
- كلّ عمر وأنت الأميرة.
يترنّم، فأغلق إحدى نوافذ القلب دون أمواجه.
- كلّ ربيع وأنتِ سنونوتي.
يهذي، فأقع في أحضان اليأس. ما بي؟ شرعتُ أتأرجح على حبال الشّك واليقين: يُحبّني. لا يُحبّني. يُحبّني.
- يا غالية، ما بكِ؟ وجهك كورقة خريف. قلبك محنّط كتمثال (كليوباترا). أخبريني الحقيقة. هيّا. هل أسأتُ لكِ من حيثُ لا أدري؟
قررتُ أن أبثّه همّي:
= هيَ.
- مَن؟
= النخلة.
- أي نخلة؟
= حبيبتكَ.
- أيّ حبيبة؟!
ألن ننتهي من هذا الموّال؟ متى تُصدقين أنّك أنتِ ولا سواك؟ لا شمس في كوني سواك. اعقلي يا مجنونة. أنتِ خياليّة جدًّا. بل أنتِ مجنونة فعلاً. لستُ بطلاً في قصصك تحبكين له الحكاية تلو الحكاية. أنا فارس أحلامك، نورسُ بحرك. استيقظي يا عمري قبل أن نصطدم بجدار لا رجعة بعده. أنا لم أعُد أقدر على الصمود أمام اتهاماتك المتكررة. أنتِ تطعنين حبّنا كلّ يوم مع سبق الإصرار والترصّد.
هزمني ذبولُ صوته. انتفضتْ عصافيرُ صغيرة كثيرة داخل قضبان قلبي وصرختْ بي: "مجنونة! هو يحبّك. لا تهدمي ملكوتك بيديك. كوني عاقلة. تلك الشمطاء استنزفت أموالك، وهي التي سحبت البساط الورديّ من تحت أقدامك لا هو. اطردي شبحها قبل أن يمرّ بك القطار فتندمين من حيث لا يُجدي ندم."
أجاهدُ لأتخلصَ من رحم الشرنقة. أغسل ما علِقَ بي من دَبَق. أتحرر فراشةً بيضاءَ. أرفرف حوله. أقف على كتفه. أقبّل جبينه. لو يدري كم أحبّه! هو نور القلب، فهل أحيا مكفوفةً مدى الحلم بسبب عجوز ماكرة؟!
تسبقني خطواتي إلى المطبخ. أتناولُ فنجان القهوة. أحدّق في النخلة. أتجه صوب جذرها بخنصر يدي اليمنى و... أمحوها بجرّة بصمة.
ثمة تمتماتٌ خافتة على الهاتف.
أنصِتُ بوجل.
تذوبُ كلماتُهُ كالشمع وهو بدلالٍ مدروسٍ يهمس:
"لا أحد سواك يا مجنونة!"