loader
MaskImg

السرد

يعنى بالسرد القصصي والروائي

الرَّجل والبَغل

breakLine

 

 

 

محمد فيض خالد / كاتب مصري

سَألتُ عمّي وهو يَرمقُ أذرعَ الشّمس الذّهبية  تُلمَلم نفسها ؛ كي تختبئ خَلفَ سِتار المساء المُنسَدل :" ألا يتعبَ عبدالشّافي ، أو يَتمرّد بغله عن الخدمةِ ؟!" ، ألقى بحزمةِ البرسيم الطَّرية ، مرّر يدهُ فوقَ ظهر خروفه الصّغير ، وبصوتٍ أبوي جعلَ يُهدهده كصبيٍ يرضيه ، طَفحَ الحَنان في نبرتهِ ، قائلا:" إنّها لقمة العيش يا صغيري ، جميعنا يدورُ في هذه الرحى"، " عبدالشافي " صديق عمّي وخلّه ، لا تُعرف لهُ عائلة ، لكنّه يعتبر جميع الفلاحين أهله وذويه ، لا زالت كلمات " صابر أبو حرارة " تتَهادى في مسامعي  ، يوم قالها في مأتمِ " مدكور " فراش مسجد " الست خديجة " ،  تراقصت على وجههِ ابتسامة ماكرة :" عبدالشافي هربت به أمه من ثأرٍ ، جاءت بهِ  تحمله لحمة حمراء فوق كتفها "، أمثال " عبدالشافي " ملح الأرض وزاده ، لا يعرف من أمرِ دُنياه غيرَ بغلهِ والكرته، وباب الجمعية الزراعية ، لا يُرى عادةً إلّا في ذهولٍ عميق ، تلتمعُ في عَينيهِ ذكريات مجهولة ، ونظرة قلقة تمسح الأفقِ من أمامهِ ، لا ينتزعه منها إلّا نداءات أصحاب الحَاجات ، مُنذ زَمنٍ وهو يعمل في نقلِ الأسمدة ، وتحميل المحاصيل إلى " الشّونة" حَباهُ ربّه فوقَ  احتمالهِ وصبره ، صَلابة في بدنهِ  ، تستفز عافيته المُفرِطة أبناء العائلات  المترفين ، وشبابها العاطلين ، كثيرا ما تَدبّ المناوشات والسّبب معلوم ، الغيرة  من الغريب المتعافي ، مُبكِرا آثرَ السّلامة ، تتردّد توسلات أمه ؛ تثير ألمه وتُهيّجُ شجنه ، فلا يجد من مَنزعٍ ؛ إلّا كظمَ غيظه والتّحلي بالصّبرِ:" أمثالنا من الفقراء ، خلقوا للكدِّ ، والسّعي خَلفَ رغيفِ العيش ".
كانت " زهرة" ابنة جارهم الحاج " سيد القفاص" مهوى نفسه ، ومَحطّ أنسه ، يفرغ في صمتِ المُنكَسِر كُلّ ما في نفسهِ حينَ يُطالِع خيالها المُتبدّي، لكنه لم يقو يوما أن يبوحَ لها بسريرةِ قلبه ، كانَ هَيابا وجِلا ، ينظر إلى غُربَتهِ نظرة من عَصَفَ بهِ اليأس ، يُكابِدُ مشقّة الاحتمالِ ، يرى الحياةَ في عينيهِ جافةً ، لا لذّةَ فيها ولا متعة ، أمّا " زهرة " فكانت على علمٍ من أمرِ حبه، لكنها كتمت كعادة بنات الرّيف ما يجولُ فيها ؛  مخافة غضبة والدها ، الذي كانَ يكره صاحبها على طولِ الخط مُستهينا بأمرهِ ، يرَاهُ غَيرَ كُفؤٍ لأن يُفكِّر فيّ ابنته  ، ورغم ضآلة صاحبه ؛ لكنه لا يستطيع أن يصرِفَ عن رأسهِ وساوسها ،  لا يأمنَ أن ينمو بينَ الفتاةِ وذاكَ البائس أواصرَ علاقة ، أوكلما غَادرَ داره ؛ أثقلته أفكارًا سوداء لا يجد دونها مَصرِفا ، تتراقصُ في خَيالهِ الشّاحب فتُسعِّر نار حقده ، مرّت الأيام كئيبة مُثقلة بالأوجاعِ جرداء مُمحلة ، رُغمَ ذلك جَاهَدَ " عبدالشافي " طويلا ليحظى بثقةِ جاره الموتور ، يَتَجَرَع لذّة الوصل كؤوسا من الخمرِ ، علّها تذهله عن متاعبهِ، أمّا الحقيقة فمرّة لذاعة، بعد إذ نمت في صَدرِ صاحبه شهوة الانتقام ، تغيّرت طِباع الرّجل وفَسَد مزاجه وهو الرّزين ، يَذرع الأرض زائغ البصر سيء الخُلق ، يلتمس الحِيلةَ تُخَلِصه من كابوسهِ المُطبَق ، لم يكن " عبدالشافي " يجيدُ صنوفَ التّملق ، ولا ألاعيبَ الحُواة ، حاولَ جهده أن يطرقَ قلبَ الشيخ ؛ أن يخفضَ له جَناح الذُّلِ من الرَّحمةِ ، كان يجيبه بتحيةٍ جافة ، هي الأقرب إلى أنّةِ العذاب ، لم يستطع الحاج قمعَ رغبته ، ولا أن يوقف حريقا اندلعَ في قلبهِ يحرق كيانه ، وفِي ليلةٍ ليلاء ، عَصَفت بهِ نيران الغضب ، عَكَرَ السّهر عيونه ، لم يجد غير بابِ " سويلم " يطرقه ، قاتلٌ مأجور لا تعرِفُ الشّفقة إلى قلبهِ طريق ، امتهنَ سفكَ الدِّماء .
ذاتَ صباحٍ ، وبينما كانت السّماء تُرسل أمينا من رُسلِ النّور ؛ يُداعبُ أجفان الطبيعة الناعسة ، جَاءَ " عمي" تغمرهُ غلالة من الحُزنِ ، فعلت لهجته في نفسه ما فعلته أوجاعه ، هَتفَ مُتوجِّعا:" لقد قتلوا عبدالشافي "، قالها وانطلَقَ لحالِ سبيلهِ يُزمجر كثورٍ مذبوح ، تَسمّرتُ في مكاني ، اتَحسّس قلبي بعد إذ ارتدت كلماته شواظا من نارٍ تحرقه ، تدحرجت دمعة واحدة سخينة ، احسبها وقد ذابت فيها مهجتي لوعة على المغدورِ ، انقضى أجل صاحبنا ، لكنّ ذكراه حاضرة ، تستصرخ ظلمَ الإنسان لأخيهِ الإنسان ، وتلعن تقاليد البشر التي تحول بين قلوبِ المُحبين ..