loader
MaskImg

السرد

يعنى بالسرد القصصي والروائي

الشخص الذي كان ينبغي لك أن تكنه

breakLine

 

 

الشخص الذي كان ينبغي لك أن تكنه

صبحي شحاته/ كاتب مصري


في أحد الأفلام الأجنبية، وكان يعرض شيئا من حياة بيتهوفن، 
دعت واحدة من الأثرياء بيتهوفن إلي قصرها، بغية معرفة كيف يؤلف موسيقاه الفاتنة، كيف تأتيه الأنغام الجديدة المبتكرة بمجرد أن يفرغ نفسه لها، وأسرت هذا في نفسها، وادعت أنها ستوفر له القصر كله له وحده، فلن يكون بالقصر أحد سواه، حتي منها هي شخصيا.

وادخلته غرفة هي بهو ملكي واسع مكتظ بالتحف الأنيقة واللوحات علي جدرانها الشاهقة، وأرفف الكتب الجلدية المذهبة، وأشياء أخري مترفة غامضة، وفي الوسط تماما كان يقبع بيانو فاخر ضخما لامع السواد، ثم ودعته وخرجت مغلقة ورائها باب الغرفة الثقيل الكبير، ولم تخرج من القصر طبعا، وصعدت إلي الطابق الأعلي علي أطراف أصابعها واختبأت فيه.

تحرر بيتهوفن من معطفه الثقيل، وجلس علي مقعد البيانو، لا يفعل شيئا، غير التنفس ببطء، يريد بالسكون إفراغ نفسه مما فيها من شواش وفوضي وخلط وتخليط، فكأنها غرفة كراكيب، حتي مال علي أفريز البيانو، كأنه يحضنه، وأراح خده عليه، وأغلق عينيه، متهيئا للنوم الإرادي، وراحت أصابعه بالأسفل تلامس أزرار البيانوا، بهدوء متردد خجل باحثة عن نغم ما، تنسجم معه، فيأخذه إلي عالم جديد، لا يراه سواه، وفيما الأنغام تنبعث وتتردد خجله متكاسلة متثائبة تتمطي وتنهض، كان هو في حال السكون والنوم الإرادي، بينما روحه تحلق كالفراشة مع الانغام الصاعدة من تحتها، حتي استغرق تماما في العزف، وسيطرت عليه الانغام، كما يسيطر الحلم علي النائم، فكأنه باللحن استحال طفلا يولد الآن وهنا..

وكانت السيدة الجميلة، تتلصص بآذانها علي اللحن الجميل المتفلت من الغرفة الكبيرة سارحا بحرية في براح القصر، فهبطت ببطء وحذر بعدما تأكدت من استغراق بيتهوفن في عالمه، فتحت الباب، وتسللت إليه بخطوات غير مسموعة، ثم توقفت بالقرب منه تراقبه بإعجاب.. مدت يدها الرقيقة الناعمة، ولامست بأصابعها ظهره المحني في وضع النوم والاستغراق التام، كأنه جنين في بطن أمه، وكان بيتهوفن في شدة التركيز والتماهي المحموم مع اللحن، فلم يكن جسدا متماسكا، وإنما ماءً سائلا، إذ ما لامسه حجر مهما دق وصغر دوم واتسع وفاض..
فصرخ أو بالاحري استحال صرخة، وانططر لأكثر من مترين عن مكانه، كأنما يد شريرة جذبته جذبا، أو بالأحري زجرته زجرا، عنيفا قاهرا.. 
بيتهوفن المستيقظ  فجأة رغما عنه يتنفس بقوة، شاهقا، جاحظ العينين متعرقا من المفاجئة الساحقة، لا يدري من هو، كما لو كان في قبضة نغمة شريرة قاسية، حتي عاوده الإدراك بالواقع، الذي سقط عليه بكل ثقله، ففر هاربا من الغرفة كلحن مشتت فزع، ناسيا معطفه..

                                                 *

في صغري وطفولتي الجميلة البريئة الناعمة الشجية، وتقريبا في سنة من سنوات المدرسة الابتدائية الساحرة المسحورة، حيث الطفل عادة أشبه بمن يعيش العالم حلما، لا سيما وإن كان محاطا بحنان حقيقي، لأم اعتبرت نفسها مخلوقه له، وأختا كبري تبكي إن مسه النسيم.. 
كنت خارجا من المدرسة، ويبدو لي خروجي الآن كأنما كنت وحدي تماما في الشارع الكبير الطويل العاري، شارع العالم، أو العالم وقد صار كله شارعا خال من البيوت فسيحا مفتوحا علي السماء، والمدرسة تقف هناك في الخلف علي رأسه، هي مبني خفيض من دور واحد، مجرد عنبر من عنابر المصانع، أفرغ من آلاته، واستخدم كمدرسه، عليها لافتة غامضة  كتب عليها" جيل الثورة".. 
كان الجو شتويا  شمسه لطيفة، ونسمات الهواء رقيقة، وأنا تقريبا امشي كنغم في ضبابه مشرقة، وفجأة مر فوق رأسي أبو البيض، هو فراشة بيضاء تماما، ناصعة تماما، كتلة من ضوء نقي تماما، ندفه من قطن مرحة، مجرد جناحين يخفقان برقة دون صوت، نغمة صامتة شاردة، لا مزيد عليها، شيئا خياليا فاتنا بالغ الجمال، خلق من الضوء الفاتن..

شدني وجذبني فجريت ورائه، أريد الأمساك به، وكانت علي ظهري شنطة المدرسة القماش الثقيلة، مقتظة بكتب السنة كلها والطعام الفائح الرائحة، والأقلام المكسورة، وأشياء حميمة غامضة أخري، اجري وراء الفراشة الحلمية، التي صارت فجأة كل السماء في عيني،  لا أريد إلا الإمساك بها، وهي تحلق قريبا مني، منزلقة علي أمواج الهواء، فكأنما الهواء طبقات مخملية من قماش حرير ملون بأشعة الشمس الرقيقة، فكأنني الاحق قلبي، خطف مني، وطار أمامي، فاندفع غير مبال بالعربات القليلة التي كانت تمر، كل حين علي الطريق المسفلت الخشن، غير المستوي، به الكثير من الركش والحصي، وأوراق شجر جافة، كأن الخريف مطروح تحت الأقدام تدهسه، فإذا بي اقفز محلقا  حتي كدت المس الفراشة بكفي الصغيرة، لكني سقطت من فوق مطب هابط قليلا، علي الطريق الصلب الزلق، فإذا بقدمي تعلواني، ورأسي وكتفي أسفل مني، في وضع مثالي الاضحاك، به من السكون أكثر من الحركة، كأني سقطت زرع بصل، كما يقال، فلا أنا قادر إلي إعادة جسمي إلي وضعه ولا قادر علي التحرك، ثابتا في هذا الوضع المقلوب، بينما عربة خلقت خلقا تقترب بسرعة منزلقة علي الحصي محدثة صريرا فظيعا، حتي توقفت أمامي تماما، وهبط سائقها بسرعة ليعيد بنائي المقلوب، فيما كانت عيناي علي فراشة أبو البيض التي تبددت كحلم في النور الشفيف..

                                               *

في قصة قصيرة لألبرتو مورافيا، 
تتحدث عن تاجر عجوز ثري، كان يقبع بالدور الثاني من قصرة، مكبا علي إحصاء نقوده، في سكون المساء، فلقد انصرف الخدم.. فإذا به يسمع، صوت جرس الباب الكبير، معلنا عن قدوم زائر، ولما لم يكن ثمة موعد مع أحد ينتظره، قام مستغربا، هبط الدرج الخشبي العتيق، وفتح البوابة السميكة.. 
فظهر شاب بالغ الجمال فاتنا، بالغ الأناقة، وردي الوجه، مستقيم القد، باهر الشباب، حلما يحلمه الإنسان، كل إنسان.. انعقد لسان التاجر الكهل، دخل الشاب بثقة من يدخل بيته دون انتظار السماح له بالدخول، وراح يتجول فيه، والتاجر يتبعه منعقد اللسان.

جلس الشاب أمام البيانو وراح يعزف، كانت المقطوعة تتصاعد سامقة شاهقة بالغة المرح، فتذكر العجوز فجأة أنها هي ذاتها الموسيقي، التي حلم بها، في شبابه، لكنه لم يستطع تأليفها، لأنه فضل عليها المال والتجارة،

وقام الشاب إلي المكتبة، لم يتناول منها شيئا، وإنما جلس علي مكتبها، وأخرج من حقيبته كتابا مضيئا جميلا زاهيا مشوقا للنظر، فتحه وراح يقرأ فيه بهدوء ومتعة، 
فتذكر التاجر الهرم فجأة، أن هذا الكتاب هو نفسه كتابه القديم، الذي تمني تأليفه، لكنه لم يفعل، إذ انتزعته منه الأيام المتسارعة وصراع البقاء والوجاهة والصعود فوق الآخرين..

وهكذا كلما فعل الشاب الساحر الفاتن المدجج بالمواهب والجمال شيئا، رأي التاجر أنه كان له هو لا أحد غيره، لكنه لم يقدم عليه، ولم يحققه، فراح يرتجف مصعوقا، من زائرة  الغامض، وخرج صوته مندهشا بين الحزن والفرح، وسأله بتوتر رهيب:

- سيدي الكريم من أنت؟

قال الشاب ملتفتا إليه باسما برثاء:

- أنا الشخص، الذي كان ينبغي لك أن تكنه.