loader
MaskImg

السرد

يعنى بالسرد القصصي والروائي

العبورُ الطّويل

breakLine

حمادي فاروق/ كاتب جزائري


التقيْنا قبل أن يكتملَ هيكلُ الجسْر إلى جسَديْنا، 
على حافةِ الممْشى،
لا أدري كيف سكبتِ الريحَ في معطفي، 
ثم عبرتِ في الفراغ كصفيرٍ فرّ من شكلِ القصبِ،
كنتُ أرغبُ لحظتها في استدراجِ كل الظّلال التي سقَطت فوق ملاسَة القرميدِ في زُقاقِنا، 
لأضِيفها أزمِنة أخرى بيني وبينكِ،
كان الأجدرُ بكِ أن تظلِي صغيرة لفترةٍ أطولْ،
كي أباهِي بك هذا الخوف بداخلِي،
و أنسى أن لهذه الأرض عمراً ما،
فالنساءُ يكرهن امتشاقَ العِصيّ من التواءاتِها، 
يرفضن أن يعرجن بحماقةٍ في اتجاه شُكوكهن، 
باتجاهِ لذاتٍ لا أحجامَ لها، 
هن كالمراجيحِ المهملة تماماً،
يرفضن دحْرجةَ جسَدكَ في المتاهاتِ،
دون أن تتلمسَ بأظافركَ شكلُ العطبِ بداخلهِن،  
وأنت تتبخترينَ فوق جمرات شمسٍ قديمة،
أنا من يتولى غسْلها كل صباحٍ بلعابكِ اللّزجِ،
وأفرحُ كثيراً كطفلٍ جانحٍ لاستجابات خصركِ لأهازيجِ الطّبلِ،
لانحناءتكِ المفتعلة،
بينما كنتِ تلتقطينَ مشبكَ شعركِ العاجي، 
تُراكِ اكتفيتِ بفقءِ عيُون الرّذاذ الذي طافَ بنا كل الأقاصِي ؟
ثم أعادَنا إلى مقاماتِ الرَّدَى كسنابل مبللةٍ تَرفضُها بروتُوكولات المطاحنِ،
لم يُسعفنِي الحظ،
لأقتصَ من قوافلِ الأروَاح العابرِة في فخارهَا كقطارات الاغترابِ، 
اكتفيتُ بالتقاطِ صُور فوتوغرافية لأوراقُ التوتِ
التي تشبهُ كفيكِ وهما يتأهبانِ للثأرِ لِعُنق زجاجةٍ
أسقطتْها الصدفة في حانةٍ ردِيئة الزُّوارِ،
اكتفيتُ أيضاً بالتلويحِ من خلفِ العتباتِ الواطِية، 
لأجعلَ نصّي مُشرعاً على كل المآلات المُفجعة،
فما حَاجتنا لكل هذا الشّجر إذاً ؟
طالما الطّيورُ تعقدُ جلساتِها السّرية بداخِلنا،
وتغيرُ زغبَ عاناتهَا بداخِلنا،
وتتزاوجُ عَلناً بداخِلنا،
وتفنى أعمَارها القصِيرة بداخِلنا،
من أخبرَ الوادي على سبيلِ الحَياء؟
بأننا سنستِحمُ  هذه الظّهيرة معاً على غير عَاداتِنا،
ونتركُ ملابسَنا عالقةً على حِبالِ القرية،
و من ألغى حدُود البِركَة عن قصدٍ،
وأرداهَا آسِنة،
حينما كنا نهاجرُ أسفلها نحو حتْفنا ؟
وفي الطريقِ إلى نهياتِنا المحْتومة،
أذكر أني قدمتُ لكِ مساحيق للزينةِ،
ومجلاتٍ ملونة تحاكِي المُودا،
وأعشاباً ورثتُها عن آلهة الخصُوبة بمقدُورها أن تُعطل احْتلامَنا،
وأشعلتُ النارَ في حطباتٍ تالفة عثرتُ عليها داخل البِركة،
لأجففَ ضفائرَ شَعْركِ الذي فقدَ أثناء اشتباكهِ مع الماءِ كل مَشابِكهُ العَاجيّة،
وأخبرتُكِ مابين بقبقةَ ماءٍ و أخرى بأن الأسْماكَ تجيفُ من رُؤوسِها،
وسألتِني كطِفلةٍ جانِحة تهابُ أن تغرقَ :
_ هل يمكنُ للهِ أن يرانَا ونحن هَاهنا ؟
تجاهلتُكِ،
مضيتُ إلى حتْفِي وحيداً كوعْلٍ يافعٍ لا يُتقنُ وعُورة الجبَل،
ككمشة نعناعٍ بريْ لا تُتقِنُ نُوتات السّاقية،
وكنتِ محض شجيرةٍ تختبئ في أغصانها المكتنِزة، 
كي لا تمسسْها الريحُ في ارتفاعاتِها المتَكرِرة نحو الجنُوب،
وكنتِ الطّيورَ،
وكنتُ أنا منْطفئاً في معطفِي المعبأ بالريحِ التي وهبتِني اياها، 
وكنتُ الطّيورَ أيضاً،
فكيفَ التقيْنا إذاً دون أن يتنبأ لنا عِطرنا الذي نادراً ما يخْطِئنا ؟ 
كيف تزاوجنَا والجسرُ لم يكتمل إلينا بعدُ ؟ 
وأنجبْنا كل هذا الرًيف الذي بينَنا،
كل هؤلاء الأطفال الذين يشغلوننَا،
وهم يُلاحقُون فوق البيدرِ شكلَ السّماء،
يغتسلونَِ في الصباحاتِ البارِدة بضوءِ الشمسِ الخافتِ،
ويتربصُونَ بأنهارِ الصّيفِ القادمة من غضبهَا،
غير آبهينَ لتلويحاتِ أيْدِينا،
للغْطِنا الذي راحَ يُسابقُ في الفراغِ تموجاتَ رياح السّيروكُو،
وأنا في غمرة شَهواتي الأولى، 
أردتُ أن أهيئكِ للحِدادِ والتّبسمِ معاً، 
أن أجعلَ منكِ حقيبة جلدٍ للسفرِ،
لأتعرفَ على محطاتٍ أخرى أكثر فتنةٍ من لُعابكِ،
أكثرُ شراسَةٍ من ألاعيبكِ،
أكثر براءةٍ من ألعابكِ المبعثرةِ في درجِ الخشبِ، 
ولنتعرفَ على ملامح جُثتيْنا اللتين أهملناهُما على حائطِ الغُرفة
دون رشّة كافُورٍ تَحفظُ ماء وجْهيهما،
دون شمعٍ أحمرٍ يضمنُ غِيابهمَا إلى الأبدِ،
و ليتعرفَ الوافدون إلى سوقِ الأربعاء
على قميصكِ الداخلي المخضبِ برعافِ تُوتٍ بري،
المرشحِ على كل حال للظَفرِ بمزايا البيعَ بالدفعاتِ،
وأنتِ تضعينَ ساقاً فوق ساق كدميةٍ قديمة،
تتصفحينَ ألبومَ صُورنا بالأبيضِ والأسْودِ،
تلوكينِ بشبقٍ مفتعلٍ بين شدقيكِ قطعة لُبَانٍ،
و تأخذينَ كل الفسائلَ المعلقة في السقائفِ من معاصِمها
للِقاءِ الطّين،
للِّقاءِ بالحياةِ،
بينما توغلتُ أنا في تفاصيلِ السّهو،
في فجرٍ أفجعهُ الصهيلُ فأستفاقَ مذْعوراً،
في ترانيمِ أغنيةٍ برْبرِية ترسُمنِي حِناءً في رجليكِ، 
ونسيتُ على حين غرةٍ فِكرة الجسْر الذي لم يكتملُ إلى جسَدينا، 
ونحن نوغلُ في العبورِ الطّويل، 
دون حافةٍ يستندُ إليها الممْشَى،
كُنا قابَ قوسينِ أو أدنى من السقوطِ بداخِلنا،
فكيف لم يتنبأ لنا عِطرنا مرة أخرى؟
_ حتى العطُور تفسدُ في قُمقُمهَا .
كذا قالت وردةٍ،
للتوِ فرغتُ من جمْعِ شتاتِهَا بين طقطقات عِظامِي، 
للتوِ فرغتُ من سَقيهَا بِريقِي الأخِير ،
ريقِي الذي سابقنِي بمشقةٍ إلى شَفتِي السّفلى،
فقَدّتْهُ تلكمُ الوردة من دُبُرٍ،
ففاضت عن آخِرها،
وغابت في زُحمة الشّرائعِ.