loader
MaskImg

السرد

يعنى بالسرد القصصي والروائي

المَحشر النقّال

breakLine

 

 

(إلى روح عبد الأمير الحمداني)


 

 

 

محمد خضير || كاتب عراقي

 

أحشرُ في حافظة هاتفي النقّال عشرات الصُور لكُتّاب من عالم الأمس البعيد والحاضر القريب، إذ أحسُّ بوجودهم تحت نظري ب"الديمومة" التي تعني عند هنري برغسون وجوداً كيفيّاً ممتدّاً في الزمان. والزمان لدى برغسون حدسٌ داخليّ وليس كميّة خارج النفس. أمّا لديَّ فإنّ المحتوى الصُوَري للأدباء والمفكرين في حافظة النقّال، يشبه "مَحشراً" نظيراً لمجتمع العالم المثاليّ، الدنيويّ والأخرويّ. وفي هذا المَحشر تتردّد أصواتٌ خفيّة تمتزج بأصوات المتّصلين من داخل الزمان الرقائقي للجهاز الصغير؛ كورالٌ يُنشِد باتساق وتصميم أغنيةَ تأتي من جهات المَطهر، حدساً لا يقيناً؛ فاليقينُ ما لا يُدركه عقلٌ مصنوع من رقائق إلكترونية، بل لا يشمله حدسٌ فرديّ كحدس أبي العلاء المعريّ القائل:
"أمّا اليَقين فلا يَقين وإنّمَا -- أقصَى اجتهادي أن أظُنَ وأحدِسَا".
 على هذا المستوى العميق، صار ولعي أن أحيا بين الصُور المحشورة، وأتطلّع مثلها إلى الاتصال بعالم ما، نصّ ما، أنشودةٍ ترتقي بحدسي إلى مصافّ الأرواح التي أصعدَها أبو العلاء السماءَ في "رسالة الغفران"، أو أهبطَها دانتي إلى الدرَكات في "الكوميديا الإلهية". ثمّ، أليسَ عالم الشبكات الرقميّة مَحشراً لا حدود لافتراضات أبعاده وبُحور كلامه؟ لا الشِعر فيه شِعراً، ولا النصّ مقيساً بكميّاته الورقية؟ ولا الأشخاص يقرأون ما كُتِب فيه من أساطير معادة؛  فالزمان هناك محسوبٌ بحادث من عالم غير منظور، أو هو متخيَّل من تصوّر غير معيّن بحدثٍ وزمان ونوع كتابيّ؟ 
 كلُّ هذا، والصُور المحفوظة في الجهاز النقّال الصغير، تقيم حواراً من وراء هذا المحشر، وفي ديمومة زمانه السيّال. إنّه المشغل الخياليّ الذي أتصوّرُه حيناً في شكل جمجمةٍ ضخمة مرميّة في الصحراء، وحيناً كأنه سفينةُ فضاء تخترق أجوازَ الزمان؛ وكلّ منهما يحمل أثراً مكتوباً بقلم  الشاعر وليم بليك، المتنبئ بهذا المحشر الافتراضيّ، في قصيدة قال فيها:
"لكي ترى العالم في حبّة رمل
 والسموات في زهرة برية
 لا تُفلِت المطلق من بين يديك
 ولا الخلود، في ساعة من الزمن"
 لم يملك بليك نقالاً ذكياً يحشر فيه صورتَه، وكذلك فنّاني محشر دانتي، بينما اكتفى فنانٌ صيني معاصر (داي دودو مع مساعدين له) بحشر عشرات المشاهير من مراحل عدة في لوحة مطلقة، تتفاوت فيها الأوضاع المفتخِرة المتعالية، والمنكسرة الحزينة، من دون تمييز بينها. امتلكَ هذا الفنان الحدسَ المتوازن ذاته الذي امتلكه مصوِّرو اللوحات الإلهية (جوستاف دوريه وديلاكروا وجبران خليل جبران)، ما أن أدركوا الخللَ الوجودي للشخصيات الشهيرة الظاهرة في لوحة حوارية من "كوميديا" دانتي.
 وعلى هذا المستوى من الإدراك الحدسي، أليست الكتابة، على إطلاقها، محشراً تحضره شخصياتُ أحد هذين النوعين الخياليّين: الوجود في داخل جبّانة من عصر أور السومرية، أو التحليق في كبسولة فضائية فوق عصرنا السيبراني؟ ماذا تعني حقاً الإقامة على هذه الأرض، وحتى متى؟ وهل تخلد الكتب والصور  إلى ما لا نهاية في تصورات وليم بليك؟
 أليس الهاتف النقّال وسيلةً لمدّ الزمان، الزمان الإلكتروني، المتّسع كصحراء أو الضيّق كجبّانة؟ وهل رنينه، بأيّ نغمة أو أنشودة، غير ترجيع مستقبليّ لنغمات بوق إسرافيل، وكورال الأرواح المسوقة إلى حسابها في درَك عميق؟ 
  كلّنا يحدس نهايتَه القريبة أو البعيدة، فيُرسِل أمامه صورتَه لتدخل محشرَ الزمان المستديم في نقّال الأبدية الذي يملكه على وجه الخصوص. هل سبقَنا آخر الراحلين (الرجل الأسطوري من أور) إلى تلك الصورة الكلّية لعالمنا؟
مردّداً مع نفسه بيتَيْ وليم بليك:
 "أبي، يا أبي، ماذا نفعل هنا،
 في هذه الأرض، أرض الشك، أرض الخوف؟"