loader
MaskImg

السرد

يعنى بالسرد القصصي والروائي

الوصيّة

breakLine

 

محمد جبر حسن || قاص عراقي



لم يمضِ شهرٌ واحدٌ على وفاة والدي حتى اتصل بي احد المحامين قائلاً أن الفقيد ترك لك وصية!!
فوجئت بما سمعت، ولم اعرف لماذا خصّني والدي بذلك دون غيري من اخوتي رغم إني أصغرهم سناً، ولم اكن متميزاً عليهم بشيء جسدي او ذهني، ربما هو رآني أكثر شبهاً به من البقية وتوسم بي ان اكون امتداداً له.. ليته حياً حتى أسأله.. لكن هيهات هيهات فالاموات لا يعودون بل نذهب نحن إليهم صاغرين.
تشابكت عندي الأفكار عن ماهية الوصية، قلقت جداً واخذت الظنون بي لحين ما احضر لي المحامي حقيبة قال ستجد في داخلها الوصية!
ترددت بإمساك الحقيبة، أو بالأحرى تملكني الخوف منها، لكنه طمأنني وخفف من روعي قائلاً.. 
لا تخف.. لا تخف المسألة وما فيها أن هناك ظرفاً ورقياً مغلقاً مكتوباً عليه اسمك وما عليك إلّا فتحه ومعرفة ما بهِ، ولأني متأكد أن ميراث ابي ليس ذهباً أو فضة ولا بيوتاً او بساتين (ومن أين تأتيه الثروة وهو الذي قضى عمره زاهداً بالدنيا وأكثر وقته يقضيه بقراءة الكتب التاريخية والدينية التي لم تفارقه) خامرني الشك بأنه يريدني أن أؤدي فريضة لم يكملها او عملاً تركه منقوصاً ويلزمني اتمامه، وهذا ايضاً بعيد الاحتمال لأني اعرف ابي حق المعرفة أنه لم يترك فرضاً ولم ينسَ عملاً إلّا أتمّه.
أصابني القلق أكثر مع فضول شديد لمعرفة ما مكتوب بالوصية، رمقت الحقيبة بنظرة خاطفة وتمتمت مع نفسي ..لا اتذكر اني شاهدتها سابقاً عند أبي ولا حتى في غرفته!
لم انتبه للمحامي وهو يغادر المكان، وضعت الحقيبة على السرير وهممت بفتحها لأعرف ما مطلوب مني، ترددت قليلاً خوفاً من المجهول الذي ينتظرني ويقلب حياتي رأساً على عقب، وبخوف مشوب بقلق أن يكون هذا مقلباً اعدّه لي أحدهم، مددت يدي ثانيةً وهي ترتجف.. بحذر فتحت الحقيبة وبحذر اكثر امسكت بالظرف وفتحته بخوف وكأنني افتح قبراً فرعونياً أخشى أن تصيبني لعنته.. فوجئت بحجم الورقة! لقد كانت مجرد قصاصة ورق صغيرة ومكتوب فيها جملة:
(انظر الى قاع الحقيبة)
ماهذا؟ مَن كتب هذه الجملة؟
ماذا في قاع الحقيبة؟
وهناك شيئاً آخر.. الخط المكتوب به الجملة لا يعود لأبي! فأنا أعرف خطّه منذ طفولتي عندما كان يكتب ملاحظاته في شهادتي المدرسية.
اذن.. مَن كتب هذا؟
هذه التساؤلات شغلتني وجعلتني في حيرة من أمري، بعد قليل من التردد اقدمت على فعلٍ لم اكن مقتنعاً به، لكني فعلتهُ امتثالاً لأمر أبي الذي أبرّه حيّاً وميتاً، توكلت على الله ومددت رأسي في جوف الحقيبة لأنظر ماذا في قاعها، لم تمضِ إلّا ثوانٍ معدودة حتى شعرت ما لم اشعر به سابقاً، كانت هناك قوة لم اتبينها جعلتني اغلق عينيّ واحدثت طنيناً شديداً في اذني، وأن شيئاً ما يرفع قدميّ عن ارضية الغرفة رويداً رويداً، ارتعبت فأمسكت بمقبضي الحقيبة بكلتا يديَّ حتى نزعتها من رأسي، سقطت مغشياً عليّ.
ولما أفقت وجدت نفسي وكأني انسل من تحت الأرض.. الظلام يحيط بي من كل جانب، بصعوبة شديدة تحركت يدي وأزاحت التراب عن وجهي، باغتني ضوء ساطع، لحظتها خُيل لي إني في السماء السابعة وجهاً لوجه.. امام الله!!
هكذا ظننت! لم يخطر ببالي غير إني مُت ونهضت من قبري بعد أن تركني المشيعون عائدين الى بيوتهم، ارتعدت فرائصي وأصابتني قشعريرة جعلتني اهتز لثوانٍ وكأنها دهرٌ، رغم هول الصدمة سألت نفسي.. 
كيف يمكنني ان ارى الله وأنا أعرف انه تعالى لا يجسّم بشكل ولا يراه أحد؟ 
أيعقل أن شيخ المسجد الذي اصلّي خلفه كان يخبرنا بأحاديث دينية غير دقيقة؟ 
قبل أن أجد جواباً لسؤالي تلاشت صورة الشخص الذي كنت أظنه (الله) واختفى من الوجود، في الوقت نفسه قدِمَ تجاهي شخصٌ مسنٌّ معتمراً عمامة بيضاء ينسدل من تحتها شَعرٌ ابيض يغطي كتفيه العريضين ويحمل كتاباً كبيراً يضم بين دفتيه مئات الاوراق وقال لي.. كنت بانتظارك! 
سألته مرعوباً.. مَن أنت؟
وماذا تريد مني؟
تقدم خطوة وفتح الكتاب الذي يحمله، فاذا أوراقه بيضاء وليس فيه حرفٌ واحدٌ، ثم قال لي بصوتٍ رخيم يصاحبه صدى:
اقترب.. اقترب لا تخف.. اقرأ .
كان الصدى يعيد لي هذه الكلمات أكثر من مرة
اقترب.. اقترب لا تخف.. اقرأ
اقترب.. اقترب لا تخف.. اقرأ

- ماذا أقرأ وكل اوراق كتابك فارغة.
وبينما أنا انتظر جوابه سمعت صوتاً هو صوتي يقرأ ما موجود في الصفحة الأولى من الكتاب!
يا إلهي ما هذا؟ كأني أرى شريطاً لمسيرة حياتي!
استمر صوتي يقرأ والأحداث تترى حدثاً بعد آخر وأنا في ذهول وحيرة.. رأيت يوميات حياتي وكأنها فيلمٌ سينمائي.. رأيت طفولتي وصباي وشبابي شاهدت خطاياي الصغيرة، شاهدت القليل من اعمال خير قمتُ بها.
فجأة بدأ النور يخفت شيئاً فشيئاً والظلام يطبق في أرجاء المكان، ذُعرت مما رأيت فصحت عالياً:
يا إلهي أين أنا.. أين أنا؟
لا تخِف يا ولدي.. منذ اسبوع وأنت راقدٌ قربي في وادي السلام!
التفت الى جهة الصوت.. 
يا إلهي! 
انه صوت أبي!