loader
MaskImg

السرد

يعنى بالسرد القصصي والروائي

انفلاش

breakLine

 

مهدي علي ازبيِّن / قاص عراقي

 

يحتضن ركبتيه، تتعانق يداه، ينفرد الإبهامان، يدور أحدهما على الآخر، يتسابقان، يتراوغان نحو الأمام والخلف، ينبّهه أحدهم:

- قنينة ماء.

 يردّ وهو يغرق في بحر الوجوم:

- غير متوافر للأحياء.

 يشاكسه صوت:

- وهذه القناني؟

 يوقف سباق الأصابع المحموم، يكسر زجاج حنجرته:

- ليست للبيع.

 يصفعه، يشدّه صوت آخر:

- لماذا تجلس بعيدًا تحت الشمس، وتترك مظلّتك؟

 يفكّ أسر كفّيه، فتتحرّر ركبتاه، يشدّ ظهره، يكسر السكون، يستدير، يتحسّس ساق شجرة غادرتها الحياة، يفهق عنقه، تنعكس في ناظريه بقايا أغصان تفزع مستغيثة في الأعالي، تبحث عن نتف أوراق، تسطّر عليها علامات وجودها، يطلق لسانًا معطّلاً:

 - أنا أنعم بظلال شجرتي الوارفة..  

 تتحاور عيون ألقى الاستغراب شباكه عليها، تنطلق- ترتدّ في المحاجر، تسائله بحروف الحيرة:

- أي ظلال؟

 يتصدّى لها بممحاة الردّ المندافة بأجراس الغمغمة:

- إنها كثيفة، ولكن أشعة الضوء تتخلّلها، تخترقها بكثرة؛ فيضعف، ويهرب الظلّ.

  تتشابح، تتآكل الوجوه، تختفي من تفاصيل/ تكوين اللوحة، تلتقي كفّاه، تتوالى دوائر الهرب، تتقدّم- تتراجع بين إبهاميه، يقلع جسده المكبّل بقيود السبات من شراك الغربة، يسحله نحو (بسطته)، يلتقط/ يندل عبوتي ماء، يفتحهما بأسنانه، يدلق على الساق الصامت، يتابع مسارات السائل الهابطة حتى نعليه المتعبين، يرمي العبوتين تحت أقدام السيارات، يشخص ببصره، يتفحّص الأغصان، علّها تورق من جديد، برغم نفاد شحنات النضارة/ الاخضرار في براعمها.

  يتلّمس نقشًا محفورًا على اللحاء يشي بشبح امرأة تتباعد في المشهد، تقود بيمينها ظلال طفل، من خلف كتفها يطلّ رأس صغير بلا ملامح.

  يداعب استدارة وجه الرضيع بمجسات أنامله، يناغيه، يشغل شفتيه مشروع ابتسامة يردّ بها على ضحكة طفل افتراضية، رنينها يشبع أعماقه، لا تتوضّح الصورة، تفقد النظرات البريئة بريقها، أو تنطلق من غير عيون، يهفت سيماء الطفل تحت مداعبة/ إزعاج أصابع البؤس، تترك شكلاً شبحيًّا تبوح به تصريحات النقش، يكبح المرأة:

 - إلى أين ذاهبة؟

  يقبض على رمّانة كتفها، يتذلّل إليها، يعنّفها، يوقف خطّ مسيرها الراحل إلى المجهول، يُوثق قدميها بحبال صوته الواهن، لا تستجيب لنداءاته، أو تعطف عليه بالتفاتة، تقبّله بنظرة.

  تشدّ الصغير من يده، تشحذ خطاها، تتداخل، تسير واقفة بخط مستقيم، تتركه يتضاءل، يتماوت، يتشيّأ في سلّة الإهمال.

  يصرف بصره عن المرأة، يمدّ كفّ التوسّل المغلّفة بالحنان نحو الصغير، يهرب الطفل يجري/ يجاري أمه، يغرب معها في اتجاه الغياب، يمسك ذراعه المتحررة، يرجوه أن يتريّث ويلتفت إليه، أن يحيي شجرة حياته بنظرة نديّة، تغمره شلّالاً يمدّه بنسغ الحياة، أو مطرًا يجلي الجدب عن روحه المعذّبة، يرجع خطوة إلى الوراء:

 - لماذا تركتموني وحيدًا؟ سأنتظركم من الجانب الآخر.

  يلفّ حول الساق الأخرس، يقرفص، يبدأ الإبهامان بالتباري، ينحشر صوت بينهما، يقطع انسياب الحركة:

- هل لديك ماء؟

 يخاطب نفسه:

- لا..

 يخترقه هزيم:

- لماذا تختبئ خلف الشجرة الميّتة؟

 يربت على الساق الأصمّ، يمسّده:

- أنا لا أختبئ.. أنتظر الحياة.

  يواجه اللحاء، يمسح غضونه، يناجي نفسه، أو يخاطب شخصًا آخر: "أين اختفيتم، لماذا لا تعودين بالأطفال؟ لقد ساحت آخر قطرات معيشتنا، سأجبر النفس على جلب الماء من بيتنا الصغير.. أنا لا أودّ دخوله فهو يذكّرني بكم، أحيانًا يقاسمني الهمّ، يشاركني البكاء، كلّ شيء فيه يسألني عنكم، يحمّلني ألم اختفائكم، يستفهم مني عن أسرار القطيعة.

  يربكه لغط صادر من رجال وصبية، يصمت في صومعة الغياب، منقطعًا عن العالم، يهمس في آذان الخشب: "أهمليهم، لا عليك بهم، إن الفضول يتحكّم بأفعالهم، يجرّهم من أنوفهم.

البيت انقلب مأوًا لمطاردات الجرذان ومطارحات القطط الغرامية، والعناكب أنشأت مساكنها الشعبية في السقوف والزوايا".

  تطبق كفّ على ساعده، توقف استرساله، يشخص بنظرة زائغة، رأسه مستقرّ في مداره، يصدمه وجه امرأة يكاد يعرفه، رسم الأرق خطوطًا بألوان العناء على أجفانها المتورّمة، ترك هالات معتمة تحت العينين، القساوة عاثت في التعابير، اختلطت بالأسى المزمن، تبادره بلسان شاكله العواء:

- وصلت حالتك يا ولدي إلى محادثة جذع ميّت.

 ينكمش، يلمّ أعطافه، تتعثّر الحروف بين شفتين شفّهما الوجد:

- أنا لا أحادثها يا خالة، إنما أحاورها.
 تختنق بعبرتها:

- بنيّ.. أنا أمك، لقد أدميت قلبي، تعال معي إلى البيت.
 تجنح لاحتوائه؛ ينفر منها، وبلزوجة:

- خالتي لن أتزحزح من غير شجرتي.
  يباغت الجميع، بحركة واحدة يسوّر الجذع، يحيطه بأطرافه الأربع، يحضن/ يعانق الشجرة، يشبك ذراعيه حولها، ينقفل عليها بِوَلَه، يلامس فمه وحنكه الساق المضغوط، يثبّت عينيه في الأعالي، يتابع تفاصيل الأغصان المنبثّة في صفحة السماء الزرقاء، ينتظر تكوّر البراعم، تنتفخ، تنبئ بعلامات الخصب، تتعالق/ تشتبك أصابعه، يطلق الإبهامين يدوران على بعضهما؛ لكن باتجاه واحد.