loader
MaskImg

السرد

يعنى بالسرد القصصي والروائي

بطل الصمت

breakLine

عادل خزام/ شاعر وقاص إماراتي

تتكّسر العصي حتماً وترمى عظامها في شهوة النار. ويهطلُ مطرٌ منسيّ ليمحو رسائل الذكريات وأبطالها الوهميين. ونحنُ نصدّقُ أن الجبابرة لا يُهزمون، لكن الجبال تضعفُ أمام تكّات الساعة ويذبل شموخها. والخطُّ المستقيم يعود لينحني عند التعب حين تخور ركبتاهُ في جدوى الركضِ بلا نهاية. فمن هو إذن البطل الأخير؟ هل نطلق عليه اسم: الموت؟ هل نحفر في ذاكرة الزمن ونصطاد فكرته الأولى، عندما تصادم هشٌّ بهشٍ وانفصم الوجود بينهما إلى خلودٍ وعدم؟ وعندما تناطح ثوران صخريان وهشّما شاشة الفراغ بينهما؟

لم يُجب أبي عن هذه الأسئلة، لكنه فتح كتباً كثيرة وظل يرمي الجمر في بطونها لعل صراخ الطفولة يُسمع. وقمّطتني أمي بورق جريدة في شتاء الحقيقة، وطعنني أطبّاء بأقلامٍ في الرأس كي لا تشطّ أحلامي إلى مستوى اليقظة. لكنني نطقتُ بما يُشبه «قصيدة حب ماكرة». ونطقت أيضاً بـ«لا» لكنها ساكتة. ونطقتُ بـ«نعم» على شكل انحناءة ذل، وكنتُ كمن تمرّد على سيدته الشمس ورفض أن يصدق ظلالها. وكنتُ أحياناً مجرد ورقة في الريح لا بد أن تُطوى في النهاية وأن يُخمد جناحها.

من هو البطل الأخير في رواية «الصمت»؟ ونحن لا نعرف، هل فمه فقاعة وجوقته الطبول الفارغة؟ وهل زوجته الشجرة الطويلة على رصيف الأيام؟ وأحفاده أحذيةٌ مهجورة على باب مدرسة لم تُفتح قط؟ يحقُّ لامرأة حرّة أن تسأل الغيمة: أين النهاية؟ ويحق للريح أن تسافر للتبدد ليس إلا، غير مكترثة بنداءات الصحارى القاحلة. ذلك لأن بطل رواية «الصمت» لم يكن فرداً وُلد في السرد وسوف يموت في السرد، وإنما هو صراخُ بشر لم يولدوا إلا في التخوم النائية، وكان العلماءُ، بمجاهر وعدساتٍ مكبّرة، يقرؤون في وجوههم ملامح الغفلة باعتبارها أصل الموت. وكان علماء النفس يقهقهون كلما ارتفع الوهم وتطابق مع الحقيقة في أصلها.

أبطالٌ كثيرون للصمت. بعضهم بدأ فيلسوفاً ثم صار حارس عمارة مهجورة. وبعضهم رمى كتب التاريخ في النار وصار يصافح الناس بأصابع محروقة. وأنا، أعرفُ أمّهات كن يرضعن الدمى الميتة إلى أن دبّت الحياةُ في معاني وجودها. وأعرف بطلاً ملخص سيرته كلمة واحدة هي «الصمت» ولكن يجب الحنو عليه لكي يصعد. ويجبُ أن يُغسل في النار لكي يُسرد. وألا ينعاه القرّاء حتى لو رأوه في النهاية يهالُ عليه التراب، وهو بعدُ لم يُولد.