loader
MaskImg

السرد

يعنى بالسرد القصصي والروائي

بنك

breakLine

 


خالد سعيد الداموك / روائي وقاص سعودي



" ما زال الوقت مبكراً "
لا بد أني سمعتُ أحدهم قالها ذلك اليوم!
منذ دقائق فقط فتح البنك أبوابه أمام جيوش العملاء الكرام. الكراسي الحديدية المثقوبة من الخلف لم تعد تستوعبُ أحداً. بدأ الناس بالوقوف في الصالة المتكدسة بالأجساد بعد أن يقطفوا من فم الجهاز المجاور للباب رقماً جديداً يرتبهم في طوابير الانتظار. الكل مشغول ولا ينشغل إلا بنفسه، العاملون يعملون والقادمون ينتظرون والمنتهون يذهبون بسرعة. ومهما تكدس الناس والمعاملات والأموال فلن تتوقف لأن النظام لا يتوقف. الجميع يعمل كالساعة المُلصقة على الجدار وبتناغم لا يتعثر.
عشر دقائق مضت من الترتيب والنظام قبل أن تتوقف شاشة الأرقام الكبيرة فتتوقف الطوابير الطويلة على كراسيها ويتحركَ الموظفون بشكلٍ مريب. رؤوس العملاء الكثيرة التي لا تعرف بعضها بدأت تنظرُ لبعضها وتتحدث بتحفظ وتهمس بتساؤل. الشاب الذي يضع على رأسه قبعة حمراء ويرتدي قميصاً باهت الصفرة هرول نحو جهاز الأرقام وراح يزجر الداخلين الجدد ويبعدهم عنه. أما الموظف الذي يجلس خلف الزجاجة فقد استقام واقفاً على قدميه ونظر إلى أحدهم في آخر الصالة ولوّحَ بيديه الاثنتين عالياً بشكلٍ متقاطع وكأنما يُعلن عن انتهاء شيء ما، برز على إثرها وبطريقةٍ غريبة رجلٌ سمين من المكاتب الخلفية وراح يدعي الشجاعة ويتقدم للناس ويقف بوجوههم وهو يرمى يديه أمامه بتعاطف ويقول بصوتٍ جهوري:
السستم داون يا جماعة .. السستم داون ..
أعاد جملته مرتين بلا تردد. رفع بها صوته المُزعج وكأنما يتجشأ على الملأ. تصنع اهتمامه بشكلٍ ملفت ولكنه لم يظهر اهتماماً حقيقياً. رّكز جملته فيهم كاللواء وكأنما يتحداهم، راح ينظر إلى موظفيه كي يثبت جدارته أمامهم وأمام نفسه. ظل مكانه يستطلع ردود الأفعال المليئة بالضجر والتأفف. كانت حركتهم بطيئة حتى تحرك بعضهم، طالعوا وجهه الصقيل يتأملونه ويتساءلون دون أن يسألوا شيئاً. ترددوا قبل أن يتوجهوا إليه ولكنهم توجهوا على أية حال. تجمعوا فرادى أو جماعات وتكاثروا على قصعته. توقفوا أمامه وأفواههم مليئة بكلامٍ لا يعني شيئاً. كان الهمس يغطي شفاههم ولا يجعلهم يتمادون بالأسئلة. لم يتجرأ أحد منهم حتى خرج من بينهم صعلوك بثوبٍ متسخ وشعرٍ يملؤه الغبار وقال بأدب يتعارض مع هيئته:
_ كيف (السستن داوو) ؟
أمعن فيه الرجل السمين باحتقار قبل أن يتحول بنظره عنه ويعود لمراقبة الوجوه النظيفة. عادت ضجة الهمس بين العملاء بعد أن أهمل الرجل سؤال الصعلوك، لكني سمعتُ أحدهم يُسند فمه على أذن الصعلوك ويُخبره أن "السستم داون" وليست "السستن داوو" تعني أن النظام متعطل.
سكتَ وجهه المغبر وهو يمتقع خجلاً لجهله، استدار منسحباً بثوبه الأصفر وهو يسرع خطاه حتى توارى خلف الأجساد الواقفة ولم أره مرةً أخرى.
الضجة الهامسة عبرت المكان وبدأت تتعالى تدريجياً بعد أن خرج الصعلوك. الناس تركت كراسيها وتناثرت في المكان لتسأل وتستطلع الأنباء من على مكاتب الموظفين. رأيتُ أحدهم يستدير بتذمر ويُخرج هاتفه من جيبه مُتحدثاً لأحدهم وفهمتُ أنه يطلب منه واسطة. خرج آخر من بين الجموع وتعلق بالرجل صاحب الصوت الجهوري مُطارداً إياه قبل أن يضيع في مخبئه بين المكاتب التي جاء منها:
_ طيب متى بيشتغل ؟!..
تراجع بكرشه الكبيرة واستدار نحوه بثقة:
ساعة .. ساعتين .. العلم عند الله.
تشجع الناس من حوله عندما بدت منه هذه البادرة وراحت الأسئلة تنال من وجهه الُمتخم بعدِّ الأموال كل يوم :
أحدهم : كيف العلم عند الله؟ إذا كنت المدير ولا تعلم من سيعلم إذاً؟
_ هو تعلم إذا ما كنت ستخرخج من الصالحة حياً أو ميتاً؟
أخرس الكثيرين لولا أن أحد المشموطين بالشيب لم يتراجع: ولماذا تخمن لنا ساعة أو ساعتين ما دام العلم عند الله؟!
_ سيشخص التقني المشكلة وسيخبرنا
صوت مُقزز كان مُستفِزاً:
اذهب إذاً واسأل التقني.
_ التقني لم يأتِ بعد، إذا حضر سألته.
آخر: يا أخي، يا أخي، منذ يومين وأنا أتردد على البنك ولا أستطيع اللحاق بدوري بسبب نظامكم المتعطل كل يوم.
_ هذه أشياء تقنية ولا نستطيع أن نفعل معها شيئاً.
آخر : هل تريد منا أن نوقف أعمالنا من أجل سستمكم لا بارك الله فـ.....
كان سيقول شيئاً لن يعجب السمين ولكنه تراجع عنه في آخر لحظة، يبدو أن شجاعته خذلته أمام المنتفخ صاحب الكرش الذي كان ينظر باشمئزاز إليه وينهي كل شيء:
_ هذا ما لكم عندي. لو سمحتم ابتعدوا عن الباب.
أبعدهم عن الباب ثم أغلقه بهدوءً مفتعل، تركهم خلفه يتذمرون، ربما كنتُ الوحيد الذي لا يتذمر، كنتُ أتمنى أن يتعطل السستم كل يوم حتى لا أدفع ما تبقى في جيبي من ميزانية هذا الشهر. كل شهر مخالفة مرورية لا أعلم كيف أحصل عليها وكأنما تفرغت إدارة المرور لي وتركت كل أعمالها لتراقب مشواري القصير من البيت إلى العمل. أحاول التحايل على حاجتي لعل مكرمة جديدة تُزيح عني هذا الهم أو وساطة تظهر لي من حيث لا أعلم فتخفض من قيمة المخالفات التي بعثرت أموالي.
راحت الناس تتفرق وتتجمع على كراسيها من جديد. بعضهم عاد إلى الكرسي نفسه وبعضهم وجد كرسياً خالياً فاحتله بسرعة قبل أن يعود إليه صاحبه. منهم من تسابقت خطواتهم مع تذمرهم وتشكيهم من نظام البنك وتعطله الدائم وخرجوا نحو الشارع وفي صدورهم زفير طويل وعلى ألسنتهم تعاويذ الصبر والسلوان التي يعرفونها.
أحدهم ربما كان ذكياً، استل نفسه وتوجه إلى موظف الأمن صاحب القبعة الحمراء وراح يستقصي الأمر منه، وعندما وجده لا يعرف الكثير حاول أن يستعلم منه عن أقرب فرع للبنك. سمعه آخرون تجمعوا حوله واستمعوا لحواره مع الموظف ورحلوا جماعةً معه. أما الباقون فهم لا يغادرون، يُقامرون بحظوظهم ويحاولون التظاهر بالصبر ويتذمرون من التقنية الحديثة التي أصبحت وسيلةً للتعقيد أكثر مما هي طريقة للتسهيل.
يقف في منتصف الصالة رجل يحك خصيتيه بثقة وينصح رجلاً حليقاً أن لا يُغادر. كان يرفع صوته ليجذب مستمعين آخرين سيشكرونه فيما بعد. يتحدث إليه بإطناب عن خبرته في هذا المجال وأن النظام سيعمل بعد دقائق لأنه يعرف هذه الادعاءات والمسرحيات التي تُمثل عليهم. ينظر بسرعة ليستطلع المتابعين الآخرين ويستطرد في حديثه ويخبره أنه كان هنا بالأمس وحدث نفس الأمر وعندما غادر أعلمه قريب له كان قد التقاه في البنك أن النظام عاد للعمل بعد دقائق من مغادرته. وأخبره أيضاً أن الموظفين يحاولون التخفيف من ضغط العمل عليهم بهذه الطريقة. الحليق كان يدعي التصديق وهو يحاول أن يندهش في ردود أفعاله أمام رجلٍ لا يعرفه.
الموظف الذي كان يختلس النظر إليّ أعرفه، لقد كان صديقاً لي على مقاعد الدراسة، أنا متأكد من ذلك. نظرته الواثقة من نفسه وزهوه المصطنع ومحاولاته أن لا ينظر إليّ عندما أنظر إليه تؤكد أني أعرفه، إنه محمد القحطاني. الغريب في الأمر أن أنفه لم يكن يسيل كما كان دائماً. أصبح يلبس ثوباً نظيفاً بلا ثقوب ويبدو معقماً بالمطهرات. أنا أحمل على جسدي ثوباً بالياً ولا أعلم ماذا يُرى في أنفي. الأمور ليست كما يجب، هذا عذر جديد أواجه به نفسي كي لا أدفع اليوم. كم من الأعذار يجب أن أجمعها لتقنعني بالمغادرة وحبس أموالي لي دون أن أعطيها طرفاً آخر يسرقها مني لأنه يسميها ضريبة أو عقوبة أو مخالفة أو مهما كان يريد تسميتها.
وجوه الناس بدأت تتغير نحو الانتظار الطويل بعد الدقائق العشر الأولى. الموظفون أيضاً تغيرت وجوههم بضحكات يتبادلونها بينهم ويتجهمون بها في وجوه المراجعين عند كل سؤالٍ حائر يُطرح عليهم. الأحاديث الجانبية أخذت منحاً جديد وأشياء جديدة؛ الديربي القادم بين الهلال والنصر، أنفلونزا الخنازير، أسعار الأسهم، نور ومهند، لميس ويحيى، محمد عبده وعايض القرني. ربما يسكت الآخرون مثلي ليسجلوا كل ذلك في مزابل يومهم بعد أن يخرجوا من هذه الصالة. الوحيد الذي كان ينتصر لنفسه هو صاحب اللحية الكثة الذي غرس رأسه في طاقيته وترك عمامته تنزلق حتى منتصف رأسه. سكتَ عن الضجيج وراح يحاور الملائكة وغرق في لجة التسبيح، وكلما أزعجه منظر أو زاد تأففه من الانتظار الطويل فهو يرفع صوته بالاستغفار.
بعد قليل، خرج رجل آسيوي من مكان لا أعرفه وهو يضع على أذنه قلماً وبيده حقيبة. لحقه رجل يسأله عن الموقف. لم أسمع منهما شيئاً، لقد كانا بعيدين والأحاديث من حولي لا تسكت والمستغفر يعلم أن ذنوبه كثيرة. ولكن الرجل السمين الذي أعلن عن توقف النظام قبل قليل، حسم الموقف عندما خرج إلى الصالة بنظرةٍ تصطنع الإرهاق وهو يشير بأوامره إلى موظفيه للجلوس على مقاعدهم واستكمال العمل وأعلن بصوته الجهوري على الملأ مرةً أخرى :

_ عاد السستم يا جماعة.
لم يكرر جملته هذا المرة، ربما كان يريد أن يشعر بامتنانهم له فلم يكررها، لكن أحداً لم يهتم له. تحرك الناس ببهجة شديدة، الوجوه العابسة تنفست الصعداء وترددت على الأفواه كلمات كثيرة كلها تعني ( أخيراً ).
سرعان ما أمتثل الموظفون لأمر مديرهم وبدأت الأرقام تمارس تعدادها على الشاشة الكبيرة. المنتظرون خارج البنك عادوا إلى الداخل وبحثوا لهم عن كراسي فارغة أو فضلوا الوقوف. صاحب القبعة الحمراء تولى سحب الأرقام من الجهاز ومناولتها المراجعين الجدد الذين لم يأخذوا أرقاماً من قبل. الجميع انشغل بنفسه من جديد ولم تعد هناك الكثير من الأحاديث الجانبية، حتى المستغفرين سمعت سكوتهم.
بدأت الصالة تكتظ من جديد وتدب فيها روح العمل، النظام يسيطر على الموقف والبعض يخرج بابتسامة عريضة تمتد بين وجنتيه لأنه أنهى معاملته أخيراً وفرَّ بنفسه من السستم. أنا أطالع المبلغ المحشور في يدي بعد أن أخرجته من جيبي وأتنهد. وجوه الموظفين عادت عابسة من خلف الزجاج ولم تعد لها الابتسامات إلا بعد أن توقف أحدهم وأشار بيديه من جديد للرجل السمين فخرج زاعقاً بصوته وكأنه ينتقم:
_ السستم داون يا جماعة، السستم داون.