loader
MaskImg

السرد

يعنى بالسرد القصصي والروائي

بيضة السماء

breakLine

 

صبحي شحاتة/ كاتب مصري

ذات يوم في عشة بعيدة، أراد كتكوت الخروج من بيضة، جدرانها السميكة تحيط به من كل جانب، راح يدق عليها وثمة صوت مريض حزين بجواره يحذره: 
- لا فائدة، هذا هو عالمك الحقيقي، أقبل به، أنت الآن آمن سعيد، لديك كل شيء تريده، الأمان حولك، تقوم تقعد تنام، في هذا الرحم، العالم الخارجي صعب شرير، وأنت مجرد كتكوت صغير ضعيف، فما أن تخرج حتى ينهشوا لحمك، أنت مجرد حيوان أليف، صحيح أن الإنسان سيتركك تعيش قليلاً، لكن بعد أن تكبر يذبحك ويطبخك ويتغذى عليك، كما نسمع ما يقوله صاحب المزرعة لابنائه، المتعجلون أخذ البيض، قبل أن يفقس، فلماذا تريد الخروج إذن؟ كف عن الخبط والرزع هذا؛ ليس فى الخارج سوى الجنون.
والكتكوت الصغير لا يكف عن الدق، كأنه في قبر مدفون ويصيح:  
- كل مطمور لا بد أن يخرج للنور، الحياة لا بد أن تكون وتزدهر ولو للحظة، لست خائفاً من الموت، وهاهو يحيط بي، لا بد أن أخرج إلى الحياة والعالم، أريد أن أعرف الحقيقة، ما هذا الوجود؟ ولماذا جئت إليه؟ وما الذى ينبغي علي أن أفعل فيه؟ ما دوري؟ هل أنا ضروري أم لا؟ 
ويدق بكل قواه مغتاظاً، فالصوت لكتكوت أخر، محبوس معه فى نفس البيضة، خائفاً فزعاً يتردد بألحاح:  
- أرجوك يا أخي، الحياة التي تريد الذهاب إليها عبثية، فآخرها الموت، وخلالها تشقي شقاءً يومياً، لمجرد أن تبقى على قيدها، من فضلك دعنا في الآمان. 
والكتكوت يدق بكل قواه، حتى اكتشف أن لديه منقاراً صلباً، يمكنه الدق به، ففعل فوراً، اخترق المنقار الغشاء، فثقب وشرخ الجدار، والكتكوت يدق بسلاحه الحاد بكل عنف صارخاً: 
- هه هه هه هم هم هم.. 
تعرق، تألم، راودته الأفكار المثبطة، بكى وضحك ودق دق دق.. انفلقت البيضة فجأة، انقسمت نصفين، غمرها نور الصباح القوي الآتي من نافذة العشة، شهق الكتكوت:
- الله الله الله، صباح الخير أيها العالم، رحب بكتكوت صغير جاء من العدم. 
قفز الكتكوت من الزلال والريق والعفن والكتمة القبوية، يرف بجناحيه يجففهما في نور الشمس صائحاً:   
- الحرية..  يا آآآآه..  الخروج من البيضة، أمر صعب فعلاً. 
هدأ  قلبه واستعاد رشده وعقله وانتشى بالحرية وغبطة الوجود، واستمتع والتذ بصرخة الميلاد، ثم فكر: كيف سيعيش، وبأية طريقة جميلة يقضي وقته في هذه الحياة الكبيرة المديدة اللانهائية، ماهي البطولات التي سيفعلها لبني جنسه من الكتاكيت، إذن لا بد له من معرفة أسماء الأشياء كلها حتى يتعرف عليها أو يسميها إن لم يكن لها أسماء. 
نظر الكتكوت المفكر إلى البيضة المحطمة نظرة الوداع، كان رفيقه هناك مازال عالقًا بالحطام، اقترب منه، وجده هامداً ميتاً، هز رأسه أسفاً يقاوم البكاء: 
- لماذا يا أخي لم تقبل الحياة شاكراً، وهبت الوجود، أهديت هدية الهدايا، دون طلب منك، وبخلت على نفسك وعلى الحياة. 
بكى الكتكوت، أغلق البيضة على جثة أخيه، أهال عليها التراب وهو ينوح: 
- عش في قلبي، اكبر، وتعلم، وتحدث، وأفرح، وغن معي للحياة الجميلة الواسعة. 
مشي الكتكوت الصغير يجفف دموعه بجناحيه الخفيفين الناعمين، حتى خرج من باب العشة، وكانت معبقة برائحة جثة أخيه، فشعر كأنها بيضة أكبر تحيط به، وجد كتاكيت كثيرة مثله تمرح فى الأرض الواسعة مع الفراخ والديوك الكبيرة وسط العشب، تنفس الهواء الجديد بقوة، واندفع إليهم يجري ويقفز ويتمسح بفرخة كبيرة ظنها أمه، لكنها رفسته ونهرته ونقرته بعنف، تفادى هجومها ونظر لها بعتاب: 
- ما معنى هذا يا أمي؟  تطردينني بدلًا من أن تضميني؟!
رفعت الفرخة رأسها فى شموخ، وانصرفت مانعة نفسها من البكاء، لأنها لم تكن تريد أن تعامله بهذه المعاملة الخشنة، ولكن هذا هو التفكير السائد هنا، فلا بد أن يشد الكبار على الصغار، حتى يكبروا ويصيروا أشداء أقوياء، فالحياة  قاسية وتستلزم ذلك. 
خطي الكتكوت الصغير وحيداً حزينًا، لا يعرف إلى أية جهة يذهب، لحق به كتكوت أكبر قليلًا، وحدثه حديثًا يضيق به صدره: 
- هكذا هم يعاملوننا دائمًا بغلظة، حتى لا نأخذ على الدلع، ونكون أقوياء! 
نظر له الكتكوت الصغير باستغراب:
- ومن اقنعهم أن هكذا هي الوسيلة الحقة؟!  
اقترب الديك الأب الكبير وصاح بحدة:  أنا.
-  يا أبي الديك الكبير العظيم، الحنية تجلب الحنية، والقسوة تجلب القسوة. 
-   لا ليس هذا شرطًا ملزماً يا صغير، وإلا لوكان هذا كذلك، لكنَّا استخدمناه منذ زمن طويل جدًا، وعرفنا الطريقة المثلى للتنشئة، مع الأسف يا صغير، لا يوجد يقين في الحياة، والعطف والرأفة والحنية قد يأتون بعكسهم، أى يجلبون الغلظة وضيق الصدر والجلافة والميوعة أيضًا، ليس مع الجميع طبعًا، أحيانًا الرحمة تنجح مع واحد، فيصير حكيمًا وفنانًا جميلًا وصورة مزهرة لمستقبل القطيع، لكننا لا نراهن على القلة، القسوة والعنف والشدة هم الطرق الأكثر قرباً للصواب مع القطيع، فإذا نفرت منهم، افعل عكسهم، أي كن رحيمًا، وإذا لأموك كان بها. 
نظر الكتكوت الصغير للديك الأب وهو فى غاية الاستغراب وقال:  
هذا هو المنطق الذى قتل أخي هناك في البيضة يا أبي الكبير، الشجاعة تنقذنا، والثقة والحب والأمل، حثني على رفع رأسي، وعلى العيش بكرامة، ليست الحياة بالمدة يعيشها الفرد، وإنما بالكيفية يحيا بها، لماذا سوء الظن والتقليل من الشأن وعدم الثقة وتقديم القسوة، نحن أفراخ جميلة رشيقة فرحة، نطير ونحط، نصوصو وننق، ونبني الأعشاش، ونضع البيض، أي أننا نفعل حياة رائعة، لا يستطيع الوجود بغيرها أن يكون جميلًا، لذا الكرامة والحب هما كل شيء.
قال الديك الكبير بحدة وضيق:
هذا الكلام حماسي غير مسئول وغير موثوق به، وعمومًا ليس الآن أوانه، عليك الآن أن تنخرط فى الحياة اليومية، وتتعلم كيف تدار الأمور هنا، وماهي واجباتك بالضبط، المهم لدينا هو بقاء القطيع على قيد الحياة، وحياة الفرد مخلوقة للقطيع، وقوانيننا ثابتة، إنك من فصيلة الديوك المفكرة، سيكون لك شأن فى القطيع، وتاريخ الأفراخ، عليك أن تدرس وتتعلم جيدًا طريقتنا، حتى تنقلها للاخرين من خلال جهازنا الإعلامي الموجه، والآن أدخل الصف هناك لتعرف مهامك. 
الكتكوت الصغير صار ديكا قويًا، ذا عرف أحمر، كان كل صباح يمسك بالبوق وينفخ فيه، حتى تخرج طيور القطيع، وتنتظم في عملها النهاري، ثم كان علية بقية النهار متابعة إنتاج الفراخ من البيض، ما منه الصالح لأنتاج الكتاكيت، وما منه يذهب إلى صاحب المزرعة، الذي يوفر لهم الأمان، ويأتي لهم بالحبوب بكل أنواعها، وكانت الحياة رتيبة، هي مجرد الحفاظ على بقاء القطيع والعدد الأكبر، وغاية المعرفة هي بقاء القطيع وخدمة صاحب المزرعة وأبنائه، وكان صوت أخيه فى البيضة يتردد فى قلبه،  يلومه أنه خرج ويسخر منه. 
ذات يوم، خرج الديك ذو العرف الأحمر من المزرعة، وكان الكتكوت الذي صار ديكًا يشعر أمام جدرانها العالية بالاختناق والأسر، كأنه داخل بيضة كبيرة، كان الجميع نائمًا، ترك لهم بوق الاستيقاظ وهرب من السور العالي،  وراح يسرع فوق الجبل، وهو يكلم صاحبه داخله: 
 - لا بد لي من معرفة العالم العلوى فوق الجبل، وأهلًا بالموت. 
هاجمة الذئب والثعلب والكلب، لكنه هرب منهم، فهو ديك مقاتل، وليست وحشية الأخرين تهمه: 
 - لهم شأنهم، ولي شأني.  
ذات يوم، وصل إلى القمة الهائلة للجبل، يحوم فوقها نسر شرير، وريح متربة، ووجد نفسه تحت  قبة السماء مباشرة، وشاهد المدى الرحيب، ووجد جلد السماء يحيط بكرة الأرض من كل جانب، كأنه غشاء بيضة عملاقة،  فأحس أنه داخل بيضة أخرى أكبر بما لا يقاس من البيضة الأولى ومن كل البيض الآخر، فأغتم وأدرك بعد تفكير جاد، أن مهمته الآن كيف يخرج من بيضة السماء، ويعرف ما الذي يوجد خلف جدرانها الهائلة، فالعالم وجد ليعرف، لا أن يجهل، لا تهم قدراته الضعيفة، لا بد أن يتعلم الطيران مثل النسر الهائل.
راح الديك المقاتل طيلة يومه يتدرب على الطيران، والاكتفاء بالقليل من الزاد والماء، وكان يصحو طيلة الليل، يحرس نفسه من الضواري المتربصة وهو مشفق عليها، هو رسول الحرية، ذراع الحياة التي تريد الانطلاق إلى المستحيل العظيم، فتلك الضواري لا تريد سوي الوجود فحسب، أما هو فالمعرفة والحرية بغيته. 
ذات صباح، اقترب الديك من عش النسر، وكان النسر الرهيب المخيف ينتظره وينظر إليه ويستعد لالتهامه؛ قال الديك بتحد:  
- أنا لن أشبع جوعك إذا اكلتني. 
مال النسر برأسه ورقبته الطويلة وصرخ فيه حتى أسقطه أرضًا: 
- وما تظن أنك تصلح له؟ أتريد مصاحبتي مثلًا؟ 
نهض الديك مغتاظًا من غلظة وجلافة وقسوة النسر: 
- أنا لا أصاحب أمثالك من الوحوش البدائية .
-  حلو ماشي ياعم السوبر كتكوت هات من الأخر. 
-  خذني خارح السماء، إلى ماوراء السحب، وما وراء القمر، والقي بي هناك فى العالم الحقيقى. 
- بس كده، يا ألف خبر أبيض، رخيص والطلب أرخص، بس ممكن تقول لي، أيه إللى مش عاجب سيادتك هنا على الأرض، وتحت فلك القمر؟ 
قال الديك باحتقار : 
- وشك العكر.
انفجر النسر الرهيب ضاحكًا، حتى سقط على ظهره، كأنه سمع نكته، ثم قام وزحف بغيظ، مقتربًا من الديك ويقول: 
- شكلك مستبيع فعلًا، كأنك بتقول يارايح كتر في الفضايح، وأنا عن نفسي مش هرحمك، هعاقبك على قلة أدبك، وهرميك فعلًا، مش وراء القمر بس، لا، ووراء الشمس  كمان.
صاح الديك بقوة، وهو يتقدم خطوة حاسمة: 
- ريحتك وحشة، مش طايقها.. خلصني.    
جذبه النسر بمخالبه، وانطلق سهمًا يشق الهواء والغيوم وجلد السماء، حتى خرج منها.. والديك لا يكاد يلا حق أنفاسه من صفع الهواء، ويقول لأخيه فى نفسه:
- يا أخي.. لا يهم الموت، المهم  الجمال. 
وطوح به النسر بعيدًا جدًا، وسط الكواكب والنجوم ومحيط الضوء الباهر العظيم اللا نهائي الجمال. وهو يصيح بصوته الغليظ ساخرًا:
- أيش عرفك أنت بالعالم الحقيقي واللي مش حقيقي، يا كتكوت يا مسخوط، قطيعة تقطعكم كلكم،  ياللا، بالسلامة، غور فى داهية بعيد عننا.
والديك غار وتاه وضاع، لكنه قال للنسر وهو يغوص فرحًا في بحر الجمال والجلال والعظمة:  
 - شكرا يا أبله،  يا ابن العبيط.