loader
MaskImg

السرد

يعنى بالسرد القصصي والروائي

تأملات السواد

breakLine

 

                                                
إستبرق أحمد || قاصة كويتية 
   

 

يفكر الليل نازلا السلالم ..درجة، درجة ، شاعرا بدفء النهار الصاعد .
بالأمس قابل رفيقه، خشخش حفيف ثوباهما. التقيا على عجالة ، سارع كل منهما للابتسام مستكملا طريقه.
النهار إلى غرفة المأوى و الليل  يجاهر بعتمته.
طالما تعرف على  تعب رفيقه من عيونه الزائغة.
اكتفيا باللقاء القصير وغادرا.
البارحة رأى
شابان يتشاجران ،يتدافعان ،يسقط أحدهما،يقفز ملدوغا بالغضب،بيده مطرقة  كانت ملقاة بالقرب من وتد خيمة، يفور الدم من  رأس الآخر، تنهال أخوات لضربة الأولى، مثنى و ثلاث ورباع ،  يستمر التهشيم،ارتجاف الجسد، و يهمد المشهد . تُلقى المطرقة المدماة بالبشاعة و الحزن، يركض القاتل ليواري سوأة فعلته ، يجر رفيقه الثقيل جثة إلى المركبة ،عميقا يتجه داخل الصحراء ليدفنه. 
البارحة لحظ حزن الجارة البكماء في الدعية التي  عدّلت حجابها ورفعت ستارة فارهة عن النافذة في بيتها الكبير، شاهدت ضيق صبر والدها العائد من الصلاة، مصوبا غضبه على فتى "الترمس"و"البَنَك" ملقيا النقود في وجهه، الفتى الذي استطالت قامته و نبت شاربه منذ أشهر. أرادت إيقافه،لم يسعفها صوتها المنكمش في حلقها منذ ولادتها، ذكرها الألم بزئيرها عند وصول مركبة والدها متأخرة بوالدتها الخائرة إلى المستشفى،لينقذفا في جحيم  المرارة  .
البارحة راقب
زعيق حافلة متهالكة في الشويخ الصناعيةً بشوارعها الضيقة، ذعر العمال الجالسين على مقاعدها بوجوه ضامرة متوجسة، ارتطمت أجسادهم ببعض وبالنوافذ اللصيقة بهم، في محاولة تفادي قائد الحافلة الاصطدام بعراك قطط شارع نزقة، فازاد أنين أوجاع أجسادهم المتألمة لاعتداء أمن الشركة عليهم  لفض اعتصامهم لمطالباتهم  بمعاشاتهم المتوقفة منذ 7 أشهر . 
صور عديدة لمكائد و حروب موشكة ،انهيارات، كوارث قادمة بزلازلها، ولمح المرأة/الضوء 
رآها تخطر كفكرة عميقة، كمزحة رقيقة، كضوء  نادر ، لها  هيئات متعددة، طويلة، قصيرة، مكتنزة، نحيفة، تخرج في استراحة من عملها، ترتدي معطفها الرمادي الطويل الذي يظن أنها- ارتدته منذ الصباح-  وتحت إبطها  علبتها  الذكية، تسرع ،يسمع اشتباكات البيادق.
أبيض ساخن، أسود بارد.
تعرف أنها تحب الوضوح، وأن ليلها لايطيق ذلك.
منذ فترة طرق النهار باب عيادتها النفسية ، جلس على الأريكة الخضراء المريحة، حدثها عن تخمته بما يراه، راغبا بالقليل من الراحة، مرتجفا يخبرها بآلام ذاكرته الحادة، بمحبته لأخيه الليل المتجاهل بشاعة العالم . عن جبروت أخيه الذي لايبصر ما يراه.
قدمت له حليب دافيء إذ رفض سواد القهوة.
أصغت بتفهم
بات يأتي بمواعيد فتعطيه ملاحظاتها، تلفت انتباهه لأحداث مفرحة أو هادئة، لا وجع فيها. فيحدثها عن كتلة الحزن الحارقة، رؤيته لها في أفواه الناس ،وجودها في داخله غائرة، هامسا بتردد:
لها لون أخي  .
أنصتت بوجهها الهاديء فوجد خفته، رأى بعض لطف العالم،  تجول في مكتبها، بابتسامة عذبة بات يعلق على الكائنات الصغيرة المتناثرة على الأرفف،هداياها لنفسها من الأسفار،  يخبرها عن وحدته زاعما هشاشته و أمنيته أن يصير مثل صلابة أخيه.
لا تحدثه عن الليل، الرائي أكثر مما ينبغي . عن صوته المهيب ، خفة دمه،سخريته التي أدهشتها، كلماته القليلة و الحانية. لم تخبره  عن عشقها وخشيتها النظر عميقا لليل  فتغرق في لججه ، عن أنه سبق النهار في قدومه لعيادتها،وكيف حاول إخفاء ارتباكه ، فمدت يدها إلى العلبة، فتحتها، اختارت القطع السوداء وتركت له البيضاء، صفتها، نازلته على رقعة الشطرنج، وسط استغرابه بانكشاف رغبته بأن يكون  النهار.  
بينها وبين الليل جولات و معارك، أرق ومحبة أدرك كل منهما دوره ومداراته الضيقة فيها،فاحترما الحدود.
بينها و بين النهار، خيارات  الصداقة الصافية،يدرك كل منهما واقعه، فتحرضه على رؤية الجمال  وفتنته،مدركة أن طريقه طويل كأخيه الليل وأن رغبة كل منهما ليكون الآخر متجذرة منذ الأزل،بحثا عن النسيان.
وكم ابتسمت إزاء أمنيتهما  بالبحث عن الجلادة.
نبشت طويلا في بئر زائرها الأول، أرته ميزاته في ستائره وستره.
بات الليل ينتظر أكثر مسامرات الكواكب بقربه،تطمس بعض وحدته، يحاول إخفاء المظلومين عن الظالمين، ماسحا عبراتهم بحبر حكايته الأسود، مساعدا قليلا لذا  :
سيكتب رسالة قصيرة ويرسلها من هاتفه النقال إلى الجهات الأمنية يخبرها عن  القاتل ومكان الجثة المدفونة.
سيطرق ملتفا بعباءة سوداء، بيت فتى الترمس ، يوصيه بأهله و يسلمه رقم حساب بنكي يساعده .
سيسمع والد الفتاة الصماء صوتها في المساء وهي تحاول الغناء بهمهمات ضعيفة،مكتومة،  فيهدأ.
سيقرر أحد وزراء الشئون الاجتماعية والعمل بعد همسة حلم، حزمة من القوانين ترعى العمالة وتبعد القطط السمان عنهم.
سيسعد الليل مزيحا ذاكرته في الوجع
سيفكر النهار صاعدا السلالم
درجة، درجة ، شاعرا بطمأنينة الليل الصاعد
أن أحاديثه معها تنسيه بعض أفكاره فعلا،وأنه لابد
أن ينفذ بعض اقتراحاتها،فيسعد و يُسعد.
اليوم
سيقابل الليل، يخشخش حفيف ثوباهما.
يلتقيان على عجالة ، يسارع كل منهما للابتسام و استكمال طريقه.
النهار يفرد أجنحته و الليل  يجمع عتمته.
طالما  أدرك كلاهما غموض رفيقه من عيونه العميقة.
مكتفيان باللقاء القصير يغادران.