loader
MaskImg

السرد

يعنى بالسرد القصصي والروائي

جدل

breakLine


 

 

أمجد نجم الزيدي || قاص عراقي

  تدافعوا، وتصايحوا، كان يبدو على وجوههم الغيض الكبير، تعالت الجلبة بينهم بدت أصواتهم كأنها زعيق بلا معنى أو رطانة غير مفهومة تعكسها ملامحهم وكأنها  تحولت إلى كلمات وحروف، بالوان كالحة معلقة فوق رؤوسهم وهم لا يعون ما تعني، بل أنهم يصرون على تعميق الوانها وخطوطها الهزيلة، استمرت تلك الجلبة إلى فترة من الزمن، تجمعت حولهم أناس واشرأبت اليهم أعناق، وأُلفت حولهم الإشاعات ورويت قصتهم بأشكال عدة، محاولة من الآخرين لفك تلك الرطانة أو محاولة الاقتناع بسبب منطقي لتلك المشاعر التي هدرت وسط تلك الجلبة غير المفهومة، قيل أنهم أخوة تنازعوا على ميراث أبيهم، وقال آخرون بأنهم ينتمون إلى طائفة غريبة تؤمن بالجدل اللامجدي والانفعال الذي ينتجه، الذي هو بمثابة تطهير للعقل من أدران الافكار الغريبة أو هي وسيلة لطرح فضلات العقل، التي إن تراكمت ستقود إلى الجنون، أو الانقياد إلى الافكار الشاذة، والطارئة.
 استولى ذلك التبرير الذي بدا أكثر منطقية، على عقول أهل المدينة لذلك ترى أن تلك المجاميع التي تتجادل قد غزت المقاهي، والمجالس الخاصة والليلية على أعتاب المنازل، بلغة مركبة من تعابير غريبة وأسلوب غير متماسك، مجرد تجميع لمصطلحات وأفكار متناثرة، يقصد منها تفريغ الانفعال على شكل مفردات وتعابير، ونادرا ما ترى أثنين لا يتجادلان بعصبية واضحة، كان من الغريب أنهم يتصايحون فيما بينهم وبانفعال، بيد أنك تلاحظ بأن أحدهم لايسمع سوى صوته لأنه منشغل بإفراغ ما في جعبته، حتى أنه يغادر قبل أن يكمل شريكه سيل كلماته، يرميها وراءه ثم يغادر، مما يضطر الكثيرون لأن يتجادلوا مع أنفسهم، كانت الكلمات تتطاير في سماء المدينة، تدور بين الأزقة وفوق الرؤوسٍ، ربما تصنع غيمة صغيرة هنا، أو تلتصق بسقف المقهى هناك، أو تتشبث بالسطوح العالية للبنايات، بعض الأحيان تبدو للمدققين أو الفضوليين أن معظم تلك الكلمات شوهاء أو لا تملك معنى، هي في أكثر الأحيان حادة وجارحة، لذلك يطلب من حاملها القائها بعيدا عن المجموع، حفاظا على سلامة الآخرين، وهناك من يرمي بكلمات بذيئة في الزواية المظلمة، وبعضهم يدلقها على حافة النهر بدون استحياء.
 أصبح الجدل من الصفات التي تمتاز بها المدينة، وأنشئت له مراكز متخصصة لتجميعه وتبويبه، لتعليم الأجيال اللاحقة فوائده التي تطهر عقولهم وانفسهم من أدران الافكار والمعتقدات الزائفة، حتى أن هناك مسابقات قد نظمت لمن يستطيع أن يلقي اكثر مفردات وتعابير، من الممكن أن توصل إلى الدرجة القصوى من درجات الجدل، حاولوا أن يسجلوها ضمن المسابقات الرسمية التي تتنافس بها المدينة مع باقي المدن، وقد أُدخلت ضمن مفردات تراثها حتى أن هناك تمثال كبير توسط أكبرساحتها، لبطل تلك المنافسات، وهو يقف بكل شموخ واعتزاز على منصته فاتحا فمه على سعته، حتى أن هناك حمامة أصرت على بناء عشها داخل الشدقين الكبيرين للتمثال.
كنا نفتخر بأننا المدينة الأولى التي ظهرت فيها هذه الطائفة، حتى أن أبناء المدن الأخرى القريبة كان يتملكهم الحسد، وحاولوا أكثر من مرة بجدال عقيم أن يثبتوا أن الريادة هي لمدنهم، وأنها ظهرت هناك قبل أن تتلقفها مدينتنا، واخترعوا قصصا وحكايا عن بدايات وهمية لتلك الجدالات، من خلال مخطوطات قديمة، وحاولوا أن يلفقوا تاريخا لكيفية تأسيس تلك الطائفة قبل أن تصل إلى مدينتنا، مما جعل كل مدينة تكتب تاريخا خاصا بها يفترق عن تاريخ المدن الاخرى، وأن لها عصا السبق في ظهور أول بوادرها، وأن مؤسسي تلك الطائفة كانوا من أبنائها، حتى أن بعضهم قد حاول إثبات أصالة نسبهم وانحدارهم من هذه المدن، من خلال بحوث جغرافية وبايلوجية تثبت أن البيئة الجغرافية والكروموسومات والجينات الوراثية، كانت هي السبب الذي جعلها تنشأ في مدنهم الخصبة، لذلك فقد سعى بعض من حكماء المدينة إلى أن ينبشوا الكتب القديمة، ويبحثوا ويدققوا عن أصل محتمل للطائفة في تاريخ مدينتنا، وحاول آخرون بأن يجدوا سببا علمياً لنشوء الجدل، حتى يمكننا أن نحافظ على صورتها الحضارية والمحافظة على تراثها.
  كان هناك من يتصف بالبلادة وعدم القدرة على إنشاء تعبير من أربع كلمات، هؤلاء منبوذون من الجميع لأنهم غير وفيين للميراث الذي جعلته هذه المدينة في أعناقنا، قيل بأنهم يتصنعون البلادة، لأن عقولهم قد غزتها أفكار هدامة لا تؤمن بتاريخ، وتراث المدينة، حتى أنهم يتعمدون السخرية من الجدالات التي تنشأ دائما وبصورة عفوية في الأسواق والمقاهي والطرقات، ويتحاشون الاختلاط بمن يثيرها، بينما تسربت أخبار تناقلها الناس، أنهم يتجادلون فيما بينهم بصورة سرية، وغريبة، خرجت عن الأعراف والتقاليد، قال شخص ما: إنّهم يبتدعون طريقة جديدة  يحاولون بها القضاء على تراثنا، الذي ضرب جذورة في أعماق تاريخنا ووعينا، كأنهم مسخرون من جهات أخرى؛ لسلب هذه المدينة هويتها ومصدر فخرها، نبذهم الناس وأصبحوا يتحاشونهم بالطرقات، حتى أن الأمهات كن يمنعن أطفالهن من الاقتراب منهم أو الاستماع اليهم، لأنهم على حد زعمهن يخلطون الكلام المعسول بكلمات مسمومة، تصيب الإنسان بلوثة عقلية، حتى أن بعضهم حذّر بأن كلماتهم تصيب الرجال بالعقم، وتناقلت الناس خبرا أن أحدهم أصيب بالخرس لأنه ردد كلماتهم بصوت عال، كانت هناك أخبار كثيرة قد غذت جلسات الجدل الليلي على أعتاب المنازل.
   بقيت المدينة تمور بجدلها الذي سد كل منافذ الرجوع أو محاولة تأسيس تاريخ بديل، وأحتار مؤرخوها في كيفية لظم خيط حكايتها، مع هذا السيل العرمرم من جدالات كبيرة وصغيرة ومتوسطة الحجم، ومع ذلك فقد اتفقوا ضمناً أنها مجرد ورقة صغيرة ساقطة من تاريخ المدينة.