loader
MaskImg

السرد

يعنى بالسرد القصصي والروائي

حاشا لقهرنا أن يكون من الكاذبين

breakLine


 

دارين زكريا || قاصّة و شاعرة سورية
 

لن نقولَ بأن النار تكوي قلبهُ, فهذا التشبيه لا يفي بحالتهِ, كما أنّ الدهر عافَ هذا التشبيه لأهله البسطاء, كيف سنصفُ هذا الرجل إذاً؟ سنقولُ بأنّ زلزالاً يهدمهُ كلّ حين ثم يبنيه الحزنُ من جديد من أعلى رأسه إلى أخمص قدميه وهكذا دواليك, تكون روحه, قلبهُ وجسده في حالة بناءٍ وهَدمٍ كل هُنيهة.
بالرغم من أنه بلا حركة تُذكر, عيناه جامدتان كأن جفنيهما استغنيا عن ترطيب الحدقتين, وجههُ نسى سمارَهُ من أوّل الواقعة أصبحَ أصفراً لا دماء فيه ولا حتى تعبير, شفتان زرقاوان, شعرٌ أشعث كان فيما مضى متغاوياً بسواده لأنه عبرَ الخمسين سنة دون شعرةٍ شائبة, إلا أن الفجيعة لوّنتْه بالأبيض كلّه الآن, يداه وقدماه ما زالوا على نفس الجلسة نسوا كيف يغيّرون من حركتهم.
في الحقيقة أنه رجلٌ ساكنٌ تماماً حتى يُهيّأ لناظرهِ أنّه تمثالٌ لا حياة فيه, أو لنقل بأنه يمسك حياتَهُ من يدها وينتظرها حتى تعيش, و حاشا لقهرنا أن يكون من الكاذبين. 
هو من  يومين على هذا الحال جالساً بقدمين مطويتين على تلّة رَدم كانتْ يوماً بيتَهُ و يمسكُ بيدٍ خارجةٍ لوحدها من تحتِ الرّكام تُريدُ أن تستأنسَ ببعض دفء.
إنها يدُ حياته كلّها, إنها يدُ ابنته التي كانتْ تنام كحلمٍ ينتظرُ فجرَ الغد حتى يتمدّد, لم يعش حلم المستقبل, ماتَ على سريرها ذي الملاءة الورديّة, وغفتْ غفوتها الأبديّة مَنْ كان يربيّها كلّ طلبٍ بعطيّة, حيث كان يقول لأمها على الدوام:
"حياة لو تطلب روحي أعطيها" هل قلنا بأن اسم ابنته حياة؟ يا لسخرية القدر يا سادة.
لم يستطع آدم إعطاء ابنته روحَه اليوم كما كان يؤكّد بشكل دائم, لو أنّ القدر أمهلَها قليلاً حتى يتسنّى له سحبَها من تحت الرّكام قبل أن يستلمَ الموتُ كلّ جمالها, لكان وهبَها روحَه وحنيّة أبوّتهِ في كامل سعادتها, لكان رمى نفسهُ بدلاً عنها تحت سقف بيتهم الصغير الذي اشتراهُ بشقّ الأنفس, لو أنّهُ لم يكن في دوامهِ في المصنع تلك الليلة لكان أنقذها, كان حمَلها على ظهره ونزل بسرعة البرق من الطابق الثاني, لربما كانتْ تجالسهُ الآن في هذا البرد القارس, لكنّه سيدبّر لها معطفاً من مكان ما, كان سيدفئها, سيعطيها معطفه و ليمُتْ هو من البرد, كان سيبقى على عهد حُبه الّلا محدود لها, سَيهبها كل ما تطلب وما لا تطلب, سيحقق لها كلّ أمنياتها, سيمشي بين الناس ويتباهى بأعلى صوته: (هذه ابنتي المهندسة حياة) كما كانتْ تُردّد لأبيها حين كان يناديها لتتناول العشاء معهم ( بابا صحتين و هنا بس لخلص دراسة باكل أنا بكالوريا و لازم أدرس مليح  لصير مهندسة و تشوف حالك فيني قدام الناس و على راحت المهندسة حياة و إجت بنتنا المهندسة حياة) كان وقتها يتخيّلُ معها حُلمها ويضحك رضاهُ بأعلى صوته, لكن الآن صوتها اختفى والحلمُ أيضاً بل حتى الضحكة غدتْ غصّة تسكنُ القلب على طول النبض.
يتذكر آدم كلّ حواراتها وكلّ حرف كانتْ تقوله مع إشارات يديها, حيث أن الثقة كانت تسكُنها و تعبّر عن نفسها مراراً بصوتها الواثق وحركات يديها المرافقة لهُ, كانتْ مرحةً تحبّ الحياة و تسردُ عليه "النكات" حين ترى أن التّعب قد استولى على وجهه حتى تحظى بابتسامته ليهنأ بالها بأنها خفّفتْ قليلاً من شقائه المبذول لجلب لقمة عيشهم الفقيرة.
ينفخُ آدم على يد صغيرته حياة ويمسح بكفّه على ظهر يدها, ليزيل الترابَ عنها, يُمسّد كفها بكلتا يديه ليدفئها, ويحاورها بصمت:
( بتتذكري يا بابا لمن كان بنفسك موبايل, وما تجيبي سيرة قدامي, بس أنا حسيت إنو في ببالك شي, ومو حابة تضغطي علي لأنك بتعرفي وضعنا "خبزنا كفافنا", وقتها سألت أمك:حاسسها مكسورة الخاطرهالبنت, قالتلي انو ببالك موبايل, بتعرفي يا بابا طلّعت المبلغ اللي صمدته قرش و را قرش لاشتري موتور روح واجي فيه عالشغل, احسن من البسكليت لان اجريي صاروا يوجعوني متل ما بتعرفي والبرد عم ياكلني أكل, بس قلت عمري أنا المهم انت تفرحي يا يابي, طلّعت هالمطمورة و اشتريتلك موبايل, لو اتصلتي فيي كنت اجيت وما خليتك لحالك)
أعرف أنك تحبين فؤاد ابن جيراننا وفؤاد يحبّك, رأيتكما أكثر من مرّة تتبادلان النظرات, رأيتُ وجهكِ كيف يحمرّ إن مرّتْ سيرتُه في البيت, ألم تلاحظِي أنني مَن كنتُ أذكر اسمه في البيت و ليس أمّك, كنت أحبُّ بيني و بين نفسي أن أشعرَ بأن ابنتي كبُرتْ و صارتْ صبيّة, لها قلب يدقٌ لشاب و وجنتاها تحمرّان حين تسمع شيئاً عنهُ, كنتُ أغارُ منهُ, لم أكن أريد أن تحبّ ابنتي رجلاً آخراً غيري, ثم يأتي ويأخذها آخر المطاف من بيتي, كنتِ سعادتي الوحيدة التي أودّ أن أفرح بها وأحزن لرحيلها في نفس الوقت, صحيح أني لا أطيق أبا فؤاد لكن الشاب والحقّ يقال لا يُعيّب (شخصيته حلوة محامي وشغيّل, عرفانة تنقي يا ضرسانة) سأزوجكِ إياه سأتخلّى عن أنانيتي كأب وأتناسى أيضاً بأني لا أطيق أباه, هاه... هل رضيتِ يا قُرّة العين ونبض القلب؟ قومي فقط وسيحصل كل ما تأمرين به وحتى إن لم تأمري, سأفهم عليك كالعادة دون أن تقولي حرفاً.
أو تذكرين حين ذهبنا إلى حلب "ويناظر يدها بدل وجهها كون الأخير تحت قسوة الحجارة و الإسمنت", كم كانتْ جميلة حلب والكبّة الحلبية التي أكلناها مازال طعمها تحت لسانكِ كما تقولين لي دائماً حتى آخذك إلى هناك مرة أخرى وأطعمكِ منها يا عمري, لكن عليكِ ألّا تكوني شقيّة وتتخلي عن جملتك التي كنت ترددينها بلهجتهم الحلبية الثقيلة نوعاً ما في كل محل ندخله ونخرج منه بجملتك (على راسي حارتك خاي.. فضحتينا وقتها يا شقية) سآخذك إلى حلب و نأكل "الكُبة" المقلية والمشوية ونشتري لك ثياباً جديدة, بل كلّ ما تودّين

يشدّ آدم يد ابنته, ينفخُ عليها مرات بحماسٍ أكثر يودّ أن يُخرجَ روحهُ من فمه ويهبها إياها, يُملّس على يدها الصغيرة الوحيدة من بين كلّ جسدها الظاهرة من تحت الأنقاض, كأنها كانتْ تعلم بأن والدها سيحتاج جزءً منها ليلمِسَه بكفّيه حتى يخفّف ولو للحظات فجيعة فقدهِ لها, يظنّ آدم بأن حياة ستستيقظ بعد قليل, عقله اللاواعي لم يصدّق بعد أنها فارقتْ دنياه فعلاً, يشدّها أكثر رغم أنها يدٌ متجمّدة تماماً. إنها يد جثة من جثث الزلزال, سقط المنزل فوقها وفوق أمّها أيضاً في عُرف الأخبار والناس, لكنها في الحقيقة هي يد قطعة من قلبه, جزء من روحه, حياته كلّها, لن يتركها تنام لوحدها هكذا, سوف يبقى معها ويدهُ تشبكُ يدها كي لا تشعر بالوحشة,  بالتأكيد أنه يحبّ زوجته كثيراً وصحيح أنها رفيقة  دربه في الشقاء والفقر لمدة 19سنة, وبالطبع حزين هو على فراقها, لكن نساء العالم والبشريّة كلها في كفة وابنته حياة في كفة أخرى, طفلته دنياه كلّها, كم تقف الكلمات عاجزةً هنا عن وصف عاطفة الأبوّة.... لم يهبْهُ الخالق غيرها كان يُداريها برموش عينيه لثماني عشرة سنة, بل يعتبر أن عُمره يُختصر بهذي الثماني عشرة أعوام, هو فعلاً لم يفرح قبل مجيء حياة إلى الدنيا, تربّى يتيماً عند أعمامه بعد موت أمّهِ و سفر أبيه إلى فنزويلا واستقراره فيها بعد نسيانه لولدِه  الذي نسى هو الآخر بدوره أن له أب أو عائلة ,لم تُعبّر السعادة عن نفسها في عينيه قبل رؤيتها لابنته, عدّها أنها عائلته كلها أمّهٌ و والده و أعمامه و أخواله, بل و الناس كلّهم كانوا يُختصرون بحياة. أما الآن غدا بلا جذرٍ و لا فرع, عادَ آدم وحيداً على هذه الأرض بما رَحبتْ, يجلسُ مع الشقاء على حافّة حجر ينتظر معجزة أن تدبّ الروح من جديد في جسد صغيرته و إلى حينها سيعيش هكذا بلا حياة.
لم يكن يرى من هذا المدى أحداً, كل العالم كان آنذاك يَد طفلته والردمَ فوق جسدها, حتّى اقترب منه عدّة رجال من بعيد رجال الخوذ البيضاء هُم مَن كانوا يسندونَ حافّة العالم السوري كي لا يقعَ بشكل كامل فوق رؤوسنا, واسوه كثيراً و استأذنوه بإخراج ابنته من تحت الأنقاض بغيةَ دفنها, كمثل باقي ضحايا الزلزال, لم يستطع الردّ عليهم كان صوتُه قد اختفى حتى دموعه كانتْ متجمّدة في عينيه الساهيتين الغير مصدّقتين لكلّ ما جرى, كان جالساً كالصنم يراقبهم بفمٍ مُطبقٍ على قهره, حتّى أخرجوا حياتهُ من تحت الأنقاض, وقتها أرادَ أن يناديها بأعلى صوته (بااااا بااااا) لكنّ الزلزال كان قد سرقَ صوتَهُ مع ابنته وأصبح من بعد فقدانها أبكماً, لا يستطيعُ النّطق, انتشلها من بين أيديهم حملها كما كان يحملها وهي صغيرة فهو لم يصدّق للآن أنّ روحها تركت جسدها منذ يومين, و راحَ يركض بها ويصرخ بكلمات غير مفهومة, لربما كان يريد أن يشكرهم لأنهم أعادوا ابنته لحضنه ويؤكّد لهم بأنها لم تمت كما يعتقدون.
مازال آدم لليوم, يدور بين البيوت المُهدّمة, يرفع الحجارة من فوق بعضها البعض و يحفرُ بيديه الرّدمَ, و كلّما مرّ به أحد ليثنيهِ عمّا يفعل يحاول أن يشرحَ له بأنه يبحث عن ابنته حياة, لا يساعدهُ بُكمُه فيستعيضُ عنهُ بيديه وحركات وجهه الذي يسكنُه القهرُ بكلّ كلّه, يؤشّر بيديه على وجهه ثمّ إلى السماء و يرسمُ دائرة في الهواء بإصبعه (ابنتي حياة وجهها يشبه القمر) ثمّ إلى شعره و يمدّ يده إلى أسفل ظهره (شعرها طويل كشلال) يَضمّ أصابعهُ واضعاً إياها على فمه ثمّ بعضُ الهمهَمة و يلوح برأسه مع إغماضة عينين (كلامُها مثلُ السّكر) ثمّ يستفهمُ من مُقابِله بإشارة استفهام من يديه وألف سؤال و ترجي بعينيه (هل رأيتها؟) فيردون عليه بأجوبة مختلفة ولكن كلها بنفس المضمون:
- لاحول ولا قوة إلا بالله- الله يصبّر قلبك ياأخي- (متلك متايل الله يرحمها ويعينك)
منهم مَن يبكي معهُ فُراقَ مَن فقدَ هو الآخر فمصابهُ كمصاب الكثيرين و الوجعُ لا يملّ البكاءَ, و آخرون يحاولون وضعَ الحقيقة أمامه بلا تجميل علّهُ يكفّ عن البحث ويرجع إليه عقله, ومنهم مَن يشاركهُ الحفرَ والبحثَ بين الركام, ليتقرّبوا منهُ أكثر ويشعرونه بأنه ليس وحيداً وسط الفاجعة, ليؤكدون له أنهم مثله أبناء القهر,أبناء الفقد.
كلّ أهل المنطقة يرثون لحال آدم الذي أصبح يعيش على أمل مستحيل بلقاء حياته, غدا إقناعهُ بحقيقة موت ابنته أمراً ميؤوساً منه بعد خروجه من غيبوبة استمرّت لمدة خمسة أيام أصابتهُ بعد إخراج طفلته من تحت الأنقاض.
لم يصّدق أنها رحلتْ إلى السماء, ما زال يبحثُ عنها على  الأرض, سيبقى هكذا آدم هائماً في الأرض على غير هُدى يبحثُ عن حياته.
يحدثُ كثيراً أن تُختصر حياة بعض الأشخاص بشخصٍ واحد, يكون هو وحدهُ حياتهم.
كما يحدث أن نفقدَ كلّ شيء في ثواني..... (طويلللة سالفتنا مِن نبكي نختصرها)