loader
MaskImg

السرد

يعنى بالسرد القصصي والروائي

خارج المقبرة

breakLine


أحمد بوقري || ناقد وقاص سعودي


لم يمضِ على رحيل صديقي عائش غير بضعة أيام.
الحنين اليه قادني إلى زيارته في المقبرة في أقصى المدينة ذات مساء يقطر حزناً وفقداً..وضبابا.
جلست على المصطبة قبالة الشاهد أحدّق في الكلمات المحفورة: " يرقد هنا عائش بن ماضي "، وأسترجع تلك الخوالي من الأيام التي كنا نبحر فيها معاً إلى أوقات البهجة ومسرّات الجنون الليلي هناك خارج المقبرة على حافة الماء والبحر..وعلى موائدِ اللذة الليلية.
اضطجعتُ مسنداً رأسي على حائط الشاهد متأملاً الفضاء الرمادي حولي ومتحدثاً معه كما لو كان جالساً امامي..بينما انسكابة هادئة للعتمة تضفي على اللحظة والمكان مهابة،  ضاق لها صدري..وغام بها بصري.

إنهض ياصديق الرحلة فقد طالت رقدتك ولا رفيق لي في ارتحالاتي المقبلة. إنهض وانفض عنك هذا الغبار وتوسّد هذه الغيمة قبل ان تذهب بماءها إلى مقبرة أخرى.
وعندما نهض عائش من قبره بدا لي منتفخاً ككرة وفاحت منه رائحة الكافور وبقايا عطرٍ قديم..
ترك قبره مفتوحاً ومضينا معاً إلى أقصى المدينة وجلس ينادمني كعادته على طاولةٍ ويرتج جسده ضحكاً وتهكماً مما حولي وينعي علي بقائي في هذه البرية حتى اللحظة، ثم أخذ يستعجلني في الرجوع إلى رمسه المفتوح..وعندما غاب جسده ثانيةً ودعته وقلت له : " سآتيك مجدداً.
في المساء الثاني عندما خرج من قبره بدا لي رشيقاً زائغ النظرات، ضامراً، غائرالوجنتين كئيباً ذا بطنٍ اجوف.. مشى معي متوسداً ذراعي كالأعمى..لم يتحدث معي غير كلماتٍ مقتضبة وبدا لي كفيلسوفٍ وشاعرٍ وتائه في آن وأخذ يستذكر أبياتاً من شعر ابي العلاء المعري ويتأسف ويبكي كالطفل لما جرى لتمثاله في معرة النعمان. 
انتفض فجأة واستحثني العودة إلى رمسه متلمساً رقبته وكرر لي دعوته لزيارته ذات مساءٍ رائق..!
وفي مساءٍ خريفي طال مجيئه لعامٍ أو عامين لبيت دعوته ورحب بي.
طلب مني رجاءاً ان ازيح سقف قبره وعندما خرج هالني منظره: هيكلُ عظمي يمشي برشاقة بجانبي.. حتى كدت لا الحق به وأنا أهرول من وراءه.
تحدث معي عن التجريد في الطبيعة والفن والميتافيزيقا..
وأخذ يسرد لي التحولات المتلاحقة التي مر بها في قبره حتى وصل إلى هذا العمق التجريدي، 
صحت به:
- رفقاً بي أيها العائش في الحقيقة...فقد تساقطت مني مثلك كل ارداء العيش.
ووجدته في صباح يومٍ رطيب يناديني بشوق ان أخرج من قبري لنرتحل معاً..
قلت له لا أقوى ياصديقي عائش على النهوض فقد صرتُ عظاماً رميماً.
.....صحوت فجراً من غفوتي فزعاً وصافحت عينيّ الكلمات المحفورة بوضوح على شاهدة القبر: " هنا يرقد عائش بن ماضي..."
لم أك أعرف أخرجت من المقبرة مبتهجاً أو حزيناً..!