loader
MaskImg

السرد

يعنى بالسرد القصصي والروائي

خياط الملوك

breakLine

 

 

خياط الملوك

حسام نعمان/ شاعر و كاتب سوري

 

إقترب الملك ثعلوب الرابع عشر  من وزيره حصيني الحصيني وهمس له في أذنه لاتنسى ما أوصيتك به وإذا نجحت لك مني مكافأة كبيرة 
=أمرك أمرك يا مولاي سأنفذ وصيتك وأحقق رغبتك وسأكون خير عبد لخير سيد 
-الملك ثعلوب : إنطلق في رحلتك سالماً غانما 
=حصيني : أمرك يامولاي

انطلق الوزير في رحلته بكل حماسة وإصرار على تنفيذ رغبات الملك ثعلوب وبعد أيام وليالٍ وصل إلى مملكة الحمير ودخلها من أوسع أبوابها وهو ينظر حوله في ذهول لما يراه من جمال وإتقان في الأبنية والشوارع ، لقد كانت مملكة الحمير في ذلك الزمان من أقوى وأغنى الممالك وأكثرها رخاء ، حيث أنها تقع على أرض خصبة مليئة بالثروات وشعبها قوي البنية صبور على العمل وإقتصادي في المصروف لايعرف الشح ولا التبذير يعيش في سلام مع كل الممالك التي حوله دون أية منغصات .
تجول حصيني في المدينة حتى تمكن منه التعب ثم أمضى ليلته في خان من خاناتها الفخمة وفي صباح اليوم التالي وضب أغراضه وتناول إفطاره وتوجه بكل ثقة إلى قصر ملك الحمير طالباً مقابلته والمثول بين حوافره ، لم يستغرق إنتظاره أكثر من ساعة كان بعدها ماثلاً بين حوافر الملك ، إنحنى أمامه وقبل حافره وقال 
- السلام على مولانا ملك الملوك والبلاد حامي الحمى باني القرى أحكم الحكماء وأعدل العدلاء ، الفطن الذي لايضاهيه مخلوق ، الذكي الذي لايجاريه في حنكته أحد ، العزيز الشامخ الأبي ، الرحوم الحليم المتواضع ، أنحني أمامكم وأتشرف برؤيتكم أنا عبدكم المطيع حصيني الحصيني خياط الملوك والأباطرة ومصمم لباسهم وأزيائهم
=الملك : أهلاً بك يا حصيني قل لنا حاجتك وإنها لمقضية في التو واللحظة
-حصيني: يا مولاي ، أي حاجة لي بعد تشرفي بسماع صوتكم وأي أمنية بعد رؤية وجهكم أنا هنا لأكون عبداً لكم  ولأقدم خدماتي في سبيل أناقتكم ومظهركم 
=الملك : أحسنت ، أحسنت الوصف والكلام ولكن ما حاجتنا لك ؟ 
نحن الحمير كما تعلم لا نتبع الموضة والأناقة حتى أننا لانرتدي اللباس والأزياء لقد منحنا الله جلداً سميكاً ووبراً ناعماً نتقي به حر الصيف وبرد الشتاء 
-حصيني: أعلم ذلك يامولاي وهل يوجد تحت السماء من هو أكمل من خلقتكم وأفضل من جمالكم ولكن خدماتي هي لتحسين المظهر وتزيين الشكل وهي عادة قد درجت في هذا العصر وأصبحت من مجالات المنافسة بين الملوك والأمراء والأباطرة وإنني يامولاي لا أجد فيهم من هو أفضل منك ولايمكن أن أسامح نفسي لو قال قائل ، إن ملك الحمير لايعرف الموضة أو ربما يتهمونك بالبخل كسر الله لهم أفواههم وأنا في خدمتك لتبقى الأول والأفضل والمتفوق دائماً 
-الملك : حسناً  ، يبدو أن كلامك فيه الكثير من المنطق والحكمة ، لابد لجلالتنا أن نبقى متفوقين في كل شيء فنحن وجه البلاد وعنوانها ولذلك سأعينك خياط الملك منذ هذه اللحظة وستأتي لتسكن في قصرنا لتعمل في خدمتنا وتشرف على أناقتنا

دمعت عينا الحصيني وتصنع التأثر ثم انهال على حوافر الملك سيكلما بالتقبيل واللثم مبتهلاً بكل أصناف الأدعية مجملاً حديثه بكل أنواع الغزل.

.
أمضى الحصيني أسبوعاً كاملاً في جناحه الخاص  يعمل ليل نهار ، يرسم ويأخذ القياسات ويقص القماش ويخيطه بعناية تامة ثم طلب المثول بين حوافر الملك سكلما ليبهره بما صنعت يداه وجادت به مخيلته ، وأمر الملك حضور جميع الحاشية لهذه المناسبة السعيدة وسمح للخياط المبدع بالمثول بين حوافره المعظمة ، حيث دخل الحصيني إلى مجلس البلاط بكل عزة وكبرياء ثم انحنى وقبل حوافر الملك قائلاً :
-السلام على ملكنا المعظم ، ملك ملوك الحمير وكل من يمشي ويسبح ويطير ، الملك المبجل مولانا سيكلما أطال الله في عمره ورفع من قدره وثبت مُلكه وعزز هيبته.
=سيكلما: وعليك السلام يا خياطنا المُخلص وخادمنا الأمين 
-الحصيني: مولاي يامولاي لقد سهرت الليالي والأيام في سبيل مرضاتكم ولقد جئتكم اليوم بأفضل ما جادت به مخيلتي وأجمل ما لبست ملوك الأرض من القماش بتصميم جديد  ولا أظن يا مولاي أن أحداً قد سبقكم إلى هذا اللباس من الملوك والأباطرة .
لمعت عينا الملك سيكلما من جمال قول الحصيني وانفرجت أساريره من سرعة أداءه ودقة وجودة عمله بينما الحصيني يُلبسه رداءه الجديد بل إنه الرداء الأول الذي يرتديه الملك ، شعر الملك بالزهو والفخر وهو يشاهد نفسه على المرآة والحصيني يشرح له عن هذا الرداء

-يامولاي لقد صنعت هذا الرداء من الحرير الخالص واستخدمت في خياطته خيوط الذهب والفضة ورصعت أطرافه بالجواهر والأحجار الكريمة .
=الملك سيكلما : جميل والله جميل لكن ماهذه الجيوب على جانبي الرداء ولماذا هو سميك من جهة الظهر 
-الحصيني : أما الجيوب فهي لتسهيل حياة ملكنا العظيم لقد وضعتها خصيصاً لتتناسب مع متطلبات الحكم حيث يمكنك أن تضع فيها كل الأختام وتحتفظ فيها بكل المراسيم والقوانين دون الحاجة إلى حاجب يحفظها معه فربما يخون ويغدر لكنها ستبقى في أمان أكثر لو بقيت معك طوال اليوم وأما سماكة الجلد من جهة الظهر فهي لسبب عاطفي فربما أحببت أن تلاعب أحد أطفالك وتحمله على ظهرك وسماكة الجلد ستؤمن الراحة للراكب والمركوب 
=سيكلما: أحسنت صنعاً أيها المبدع ، أخبرني الأن ما اسم هذا الرداء الجميل 
-الحصيني: إنه في لغتكم يامولاي يسمى السرج وفي لغتنا نحن الثعالب يسمى الخرج
=سيكلما: أحسنت صنعاً أيها الخياط المبدع والخادم المخلص 
ثم أمر الملك بمكافئة كبيرة للحصيني وتعزيز مكانته ورفع شأنه بين الحاشية ، وانتشرت بين الحمير موضة السرج ، كل واحد منهم حسب مستواه ودرجته الإجتماعية وتعددت بحسب ذلك أنواع القماش والخيوط المستخدمة للصناعة ، لينتشر السرج بين الحمير كالنار في الهشيم وأصبح اللباس الرسمي لهم بعد أن لبسه ملكهم وسيدهم وقلده كل شعب المملكة .
لم يمض أسبوع حتى طلب الحصيني المثول بين حوافر الملك سيكلما  ليبهره بلباس جديد وتصميم فريد وكان له ذلك بعد أن جمع الملك الحاشية مرة أخرى لهذه المناسبة ، دخل الحصيني على الملك وأخرج من جعبته قطعة سوداء من الجلد ربطها حول رأس الملك وعندما انتهي من تثبيتها كانت تغطي عيني سيكلما من الجانبين

.
الحصيني : مولاي الملك ، لقد كان الأسبوع الماضي قاسياً جداً لم أستطع النوم فيه وأنا أفكر بأن رداء السرج فيه شيء ناقص حتى أتاني الوحي والإلهام لصنع هذه التحفة التي وضعتها على عيونكم الجميلة 
=سيكلما: ماهذا اللباس يا خياطي المخلص ولماذا لا أستطيع الرؤية إلا في إتجاه واحد ، أعتقد أن تصميمك هذا غير موفق أبداً 
-الحصيني: يا مولاي إنه تصميم فريد لم يخطر على بال أحد ، فهذا التصميم مخصص لحماية عينيك من الغبار والأوساخ والنظر إلى مايغضب الله ، سيبقى نظرك في اتجاه واحد مستقيم لتستطيع التركيز على هدفك فلا يبتعد عن ناظريك ولاتنشغل عنه بالنظر إلى أمور أخرى وكل ذلك لمزيد من الخير لك وللرعية ولقد اخترت الجلد لمتانته واللون الأسود ليتناسب مع كل الألوان فلاتحتاج إلى تبديله حين تبدل بين أنواع السروج وألوانها ولقد أطلقت على تصميمي هذا إسم الطماشات 
=سيكلما : أحسنت ، لا أعلم كيف أكافئك أيها المخلص المطيع والفنان المبدع إن في طماشاتك هذه لخدمة كبيرة للملك والشعب ، أحسنت صنعاً أيها الحصيني الأمين .
ومثل موضة السرج إنتشرت موضة الطماشات بين كل حمير المملكة أسوة بملكهم وايماناً منهم بذكائه وحكمته وكانوا مثل ملكهم بإنتظار التصميم الجديد للخياط الفريد ولم يطل إنتظارهم أكثر من أسبوع ليمثل بعدها الحصيني بين حوافر الملك ليعرض عليه تصميمه الجديد ويلبسه إياه وما إن انتهي من تركيب تصميمه الجديد على وجه الملك وبين فكيه حتى قال :
-ياسلام ، ياسلام كم أنا مبدع وكم أصبح مظهرك جميلاً يا مولاي بعد هذه القطعة الفريدة 
=سيكلما وهو ينطق بصعوبة: فعلاً إنها جميلة لكن لا أفهم ما الفائدة منها وهي تعيقني في النطق والكلام 
-الحصيني: لقد صنعت هذه القطعة تماشياً مع عظمتكم فكلام الملوك لايكرر وعلى الجميع أن ينصتوا لك جيداً وبكل تركيز ليفهموا الأوامر والتوجيهات وبهذا التصميم يصبح نطقك ذو هيبة أكبر وصوتك ذو رخامة أكبر  لذلك صنعت لك الرسن
=سيكلما: الطعام كيف سأتناول الطعام والرسن مثبت كماترى 
-الحصيني: بسيطة يا مولاي يمكنك نزعه متى تشاء وتتناول طعامك 
=سيكلما: أحسنت يا حبيبي لا أدري ماذا كنت سأفعل من دونك ولا أدري كيف سيكون وضع جمالنا وأناقتنا بدونك 
-الحصيني: خادمكم المطيع وعبدكم المخلص يا مولاي

وكالعادة أصبح الرسن موضة المملكة الجديدة التي يرتديها كل الحمير للتزين والتجمل مع السرج والطماشات وصار معشر الحمير يتنافسون فيما بينهم في ارتداء الأجمل والأفضل من بين هذه القطع .
بعد عام جاء ملك الثعالب ثعلوب الرابع عشر في زيارة إلى الملك سيكلما ولاحظ كيف أن تصميمات وألبسة وزيره الحصيني قد انتشرت بين سكان مملكة الحمير ، لقد كان في غاية السعادة وخطته تمشي بكل دقة كما أعدها ، أمضى بضعة أيام في ضيافة سيكلما واتفق الملكان على شراء صفقة ضخمة من السروج والطماشات التي تصنعها مملكة الثعالب وبينما يمشيان في السوق يتفقدان أحوال المدينة تظاهر ثعلوب أنه تعثر  ووقع وأصيب كاحله بإلتواء 
-سيكلما : سلامتك ألف سلامة يا ضيفي وصديقي ، أين الإسعاف أحضروا الإسعاف والأطباء .

اقترب منه خياطه الحصيني وهمس في اذنه إحمله أنت ياسيدي ليشعر بقوتك وعطفك واحترامك وليعرف متانة وقوة سرجك وحسن تصميمه ، أحسنت يا حصيني أحسنت ، ثم اقترب سيكلما من الملك ثعلوب ورفعه على ظهره وعلى الفور قامت حاشية سيكلما برفع حاشية ثعلوب على ظهور سروجهم ، ليمسك ثعلوب وحاشيته بالرسن بكل قوة مخافة أن يفلت منهم واستمروا على هذه الحال لسنوات طويلة يركبون على السروج ويمسكون بالرسن وأصبح السرج والطماشة والرسن من ألبسة الحمير الرسمية يتناقلونها من جيل إلى والحصيني خياط الملوك يتنقل من مدينة إلى مدينة ومن مملكة إلى مملكة حاملاً تصاميمه الفريدة وألبسته الجديدة ونظرته وخدماته الجليلة .