loader
MaskImg

السرد

يعنى بالسرد القصصي والروائي

دم مـن..؟!

breakLine

 

حنان النشمي || قاصة عراقية

 

 

 

 

عطس الليل.. أهتز الشباك خوفًا، تساقطت عنه بعض ندفات للثلج الخاملة عند الحافات (عليّ أن أعرف من يكون ذاك الشاب..؟!

وقوفه غير المتناسق وترقبه الدائم جعلني أسترجع بعض المشاهد المألوفة، مرت الكثير منها فاسحة مكانًا قد ترك شحوبًا لبشرتي وسهرًا طويلًا.. وعندما هز الصباح ظلام الليل من غفوته طالبًا منه التنحي فاستجاب الليل لذلك ساحبًا عباءته السوداء، وأخذت الشمس تطقطق أصابعها والعصافير تشاركها النقر، فززتُ لعله يكون كابوسًا واقتربت من الشباك كان يقف كعادته والمكان من حوله يصيح نتيجة تلوثه بالدم المتخثر، لا أذكر إنني قبل هذا الوقت رأيت المنظر وكان يقتصر الأخير على وجوده فحسب..

 

أدرت ظهري بكسلٍ وأخذت أغير ملابسي للذهاب إلى محل عملي

ترسب تعب النهار وضغوط العمل في جسدي، وصيحات الناس وتقوس أصوات الموظفين في أُذني، راجية اللحظات الأخيرة من الدوام أن ينتهي.. وها هـو به ينتهي 

بينما هدير الضجيج لا زال ينحدر من ذهني صرخ ورائي أحدهـم

_ يا آنسـة، أجـرة سيارة..

لم تنفض رموشي السرحان المكلل فوقها 

_ هـل أنتِ صماء (وأخذ يأشر بيده نحو سيارته 

تساقط من رأسي أهتزاز وكأنه علامـة الموافقـة وجلست إلى الخلف كأي بجعة مفجوعة بغرق صغارها.. أخذ يقود السيارة بسرعة كبيرة كأنه وسط مضمار سباق (كلما أردت قول تمهل أيُها الأحمق ستقتلنا، أحدهم يضع كفه على فمي لكي لا أنطق

وفي الطريق عامـة من الناس تناولوه بالسبّاب وهـو لا يكترث غير أنه أخذ يضرب فوق المقود.. قلت في نفسي (لماذا أنا هنا؟

 

ببطء وتوخ حذر شديد أراد قول شيء لكنه تلعثم قليلا ثم أردف بصوتٍ عالٍ قال: (يا آنسـة، أنـه لا يعرف كيف مات؟

_ مممم!.. مـن هـو؟

يدير رأسـه نحوي ويقول: (لا أحـد يدري من هـو، حتى هو لا يعرف؟.. غير أنـه كان مخضبًا بالدم، قالوا عنـه: (غريب ومجهول، ألا أنـه يشك أن هذا الدم لـه!..

_ أنزلني هنا، طريقة كلامك تخيفني..

_ سأوصلكِ مع أنني غير راغب بانصرافك قبل أن نعرف دم مـن؟..

وصلت البيت ونسيت ما حدث صباحا. لكن شغلني أمر صاحب السيارة والكيفية التي كان يتحدث بها معي، صعدت الدرجات وثقل في أقدامـي بإمكاني القول وصلت الغرفة ورميت حقيبتي على سريري وألقيت نظرة على السرير الآخر كانت نائمـة فوق غيمـة بملامح هادئـة، على ما يبدو أن ضجيجي ازعجها فأيقظها من نومها قائلـة:

_ كيف كان يومكِ دوني اليوم؟

_ آه حـسنًا، الجميع مرتاح اليوم من ازعاجاتكِ…

_ ما قصـة الشرفة هذه الايام، الآمَ تنظرين؟

_ ماذا؟

_ اخبريني وأعدكِ لن أخبر احدًا..

_ لا شـيء، مجرد تخيلات غير متأكدة منها.. استدرت فقلتُ (أنـه يراقبني..

_ من هـو؟

_ من أين لي أن ادري..

انتعلت شحاطتي واجتزت الباب ثم عدت إلى الشرفة لأُلقي نظرة 

رأيتهُ واقفًا ناديت على أختي تعالي ها هـو..

_ أين هو 

_ أمامكِ 

_ لا أحد هناك.. انزلي لتناول الغداء وكفاكِ جنونًا

سرى التعب في مفاصلي وتمدد القلق في قلبي عدت إلى الوراء وجلست على طرف السرير تراخى جسدي من شدة التفكير.. كأن الريح تلاعبُ الشباك.. رغبـة قويـة في اللاكلام، تبدد كل شيء حين رأيته واقفًا أمامي وسط الغرفة 

_ أأنت شيطان؟!

_ عيناكِ ناعستان وأنا مشتاق للنعاس 

_ من تكون؟

_ مقتولًا لا يعرف قاتله..

_ أنك تخيفني.. قل من أنت؟

_ لن تقاطعيني، أليس كذلك؟!

_ لن افعل. 

إنها لحظات بطيئة حين يرتج شيء في صدرك يتحرك ببطء شديد في طريقه يلتقي بالحنجرة تخبره اَلا يغادر بيته لكنه يكمل مبتسمًا فيصل بداية فمه ويطلق نفسه نحو كون أوسع من جوف الصدر يرتفع للأعلى للأعلى ثم ينظر إلى الأسفل جسد مُلقى بارد وشاحب اللون لا حراك لـه لا يفتح عينيه وينام دون أن يشعر بالنعاس.. نومـة مباشرة بعد أن ترتجف أعضاؤه خوفًا من الفناء، الأموات يرغبون بالارتجاف والحركة؟ لكنهم غير قادرين على فعل ذلك!

يشعرون بالوحدة بعد أن تتركهم الأرواح ولا أحد يدفئهم..

استدعاني كتاب قد قرأتيه قبل أيام ليست بالكثيرة يتحدث عن تلك الروح الهاربة من جسد وقبر صاحبها في محاولة أن أعرف من قتلني..؟!

كُنت أتذكر أمـي قد ماتت بمرض الكلى ولم يكن والدي يملك المال لإجراء العملية لها.. وتركتني مع أخت تكبرني بعامين تركت تعليمها لأنها رسبت بسبب معلمتها التي تأخذ الرشاوى حتى يتمكن الطلبة من النجاح كانت تحب الهدايا والمكافآت، وأختي الآن متزوجة من رجل أُصيب بماكنـة في معمل لإعادة تدوير النفايات ولم يحصل على اتعابهِ، تخلى عنه صاحب المصنع وعن خدماتهِ وبعد سنوات

  تزوج أبي مرة ثانية واصبح لـهُ ولدين أحدهما عاق جدًا افسدهُ دلال أمـه ابنة أحد أعضاء المجالس في هذه الدولـة، بينما الآخر على جادة العلم منعزل عنهم لكن لم يتيسر لي أن أهتدي إليه بعد.. 

وليس بوسعي أن أكلم أي أحد منهم اكتفي بزيارتهم عن بُعد

لا أحد منهم يتذكرني؟ ولا أعرف ما هي جريمتي؟ غير أني المح صورة أشبه بالزنزانة في بيتٍ ما، أحدهـم أحرق جبهتي بسيجارتهِ ما لـم أعترف!..

وآخر توعد بأن يقطع أصابعي أن لم أتكلم.. كُنت أصرخ بأني أحب العراق كُله وكانوا يضحكون ويقولون عني خائفا وجبانا..

كانت أسناني تصطك لفكرة تخطر في بالي لو أني حر اليدين لقطعتهم وأكلتهم.. أأيشككون في حبي لوطني؟

تمعنت الباب جيدًا ورحت أفكر لو استطعت أن أقطع سلاسلهم بأسناني لهربت من غرفتهم و زنزانتهم الزنجة لا اعرف كم شخصًا عذبوا قبلي؟..

 لكن دمائهم كانت تتفجر كلما تركوني وبقيت لوحدي إنها جروحهم ترافقني ببؤس عجيب وبخجلٍ رهيب يتفجر دمعي لأنني تجارة لدينٍ يستفيد من تعذيبِ أولئك الخنازير لكنهم يحتاجون إبهامي لصوت انتخابي بينما هم لا يعترفون بي مواطنًا عراقيًا ولست من صلب سياسي ليعقد صفقاتهِ ويخرجني ولا من نسل قيادي في حزبٍ ما.. بل أنا عراقي بائس لا يعرف قاتله؟

بقتلي منعوني من الصراخ ومن التظاهر ومن حق المطالبة بالوطن 

لا شـيء… كنت اتسأل بين الفينة والاخرى فوجدت كل اسئلتي قد تزحلقت وكسرت رقبتها ورأسي الزجاجي تناثرت شظاياه، بكت بصوتٍ عالٍ كل الأفكار واخذت تعوي حتى سمعوا عواءها وجاءوا يركضون وبذلوا جهدا لكي لا تعضهم أفكاري – يشهد الله – لقد حاولوا أن يرموني في عمق القير ولكني تسارعت وشتمت العراق (هذا ما يريدون) فقط ليتركونني أعيش..

شعرت حينها بأني خنزير وأشبههم للغاية، والأفكار أصبحت متشدقة وصلبة و كدت انتهي وأنهي هذه الحياة السحيقة وإلى جانب قضيتي وموتي كلنا –على خطأ– أتخذت وقتًا طويلا لانطق هذا الكلام بشجاعة "كلنا مخطئون" وأنا مشنوق في قلم كاتب نال شرف أن يكون مؤلفًا لكتاب "في عهد الدولـة" وكتبوا عني بأني خارق للقوانين وزنديق، وفصل فيه تحدثوا عن العولمة، وفي الفهرس ذكروني بعنوان "عدو العراق اللدود".. أفلحوا فيما خطت أناملهم وأنا أكتم الجواب الأكثر صراحة ولكني مع ذلك.. أجهل كيف مت؟

هل أحرقوني فيما بعد بقعر القير؟ أم أعجبتهم فكرة ربط مقود السيارة بجسدي وسط سوق فتذكرني النشرات بعد أن يحللوا الـ  DNA أنـه فلان مات كأي انتحاري جبان..

ويلعنني الكثير ولا احد يبكي وطنيتي، تغسل عقولهم الخطابات ذات النفس الكريه.. تقولب دوري ولا أعرف كيف مت؟ 

لماذا لم يذكروا أني مت نازحًا في مخيم على فراش بارد مبتل في ليلة غزيرة المطر (هكذا لن ينالني العار)

إنهم رغبوا بأن أكون مادة دسمـة في الهجرة اللاشرعية عبر الحدود.. غير أنهم لم يفلحوا!

ولكني لم أتأكد بعد.. هل هذا هو دمي؟

منذ أكثر من عقد وأنا احميه لكي لا ينتهي.. فليس من المعقول أن جميعكم زعماء الوفاء والاخلاص لهذا الوطن وأنا الوحيد المقتول المجهول.. لماذا لم يعلقوا جسدي وسط المدينة أن كنت مذنبًا؟

أبشع ما في الامـر أني وجدتهم جميعا على صواب وأكتشفت شيئًا ينافس الجنون، قد حلت عليهم  نقمة كبيرة إنهم يموتون دون أهل دون دم الآن، إنهم يموتون خنقًا تخنقهم كلماتهم في الصدور، يسمم أبدانهم الصمت، أي حياة هذه التي يعيشونها أيامهم طماعة تمتص أحبتهم، وتسرق عقيدتهم، كأنها مسرحية لا بد من التهريج فيها!

مـع هذا..

شئتم أم أبيتم ستصفقون لهم ويعلو التصفيق في القاعة ولا أحد من المصفقين يسأل نفسه من سينبري لمحاسبة المهرجين؟ من لديه الجرأة على فعل ذلك؟

وسؤالي الزجاجي المتهشم يجرح طرف لساني، هل هذا هو دمي ؟

 

بعد إن انتهى من مناقشته الحادة قلتُ له (ما علاقـة سائق الأجرة بك؟..

_ أصبح يترقب قضيتي بعد عتاب طويل جرى بيننا وما كان ينبغي أن يستمر لكنه تنفس في قفا صورة أبنـه المقتول غدرًا وقال: (إسمع أنا أحرس قضيتك مقابل أن تحرس ولدي؟..

أنـه يخاف الظلام، قتلوه ونهبوا ماله وسيارته ورموا جسده في حاوية للقمامة على شارع المطار بالقرب من تمثال ابن فرناس

عاتبت الأخير كثيرًا لماذا لم يطر نحوه لينقذه.. رغم إنـه الشاهد الوحيد لكنه فضل الصمت من غير أن يمنحني حلا!..

وهكذا السيد الظريف حريص على معرفة هل هذا دمي…؟

 

 

_ أصـلا أنا.. خائفة.. من تكون؟

_ لا أعرف من أكون، ولا أريد ذلك، لكني حريص على معرفة، هل هذا هو دمي؟

_ أنك تسحق راحتي وراحة روحك، إرجع إلى قبرك؟..

تركتهُ ونزلت لأحضر الغداء مع عائلتي 

ما كنت أظن صدفة كهذه بإنتظاري فوق طاولة الطعام وهـم يتحدثون عن ذكرى لمقتول أهدروا دمه قد سمعوها من أخر جار بقي في هذا الشارع بعد أن هاجر الجميع تاركين بيوتهم ومحلاتهم.. تطلعتُ بوجه عمي الذي كان مستمرًا في حديثه

فقلت: (أين أهدروا دمـه؟..

_ في الشارع المقابل لشرفة غرفتك مباشرة

_ كم من الوقت مضى على هذه الحادثة؟..

_ ما يقارب العشرة أعوام

_ أتعرف أسمـه؟..

_ لا أحد يعرف 

_ كيف مات؟..

_ حسب قولهـم قاموا بتعذيبه كثيرًا وحاولوا أن يخرجوه عن دينه

لحقوه وهو مع أحد أصحابهِ في اليوم الثالث من أيام عيد الأضحى المُبارك في طريقهما إلى السوق التجاري وقد لوثوا الشارع بدمه وضربوه بإطلاقات نارية فجّت جبهته.. لا أحد يعرف ما هـو اسمه.. دفنوه دون اسم.. دون أهل..

_ ماذا عن الصاحب الذي معه؟..

_ شبع جنونًا..

_ وأنا مـن…؟

 

صرخت إحدى الممرضات  من يسكت هذه المجنونـة..؟

إلتفتُ قائلـة: (من تقصدين..؟

_ أقصدك لستِ إلا مريضـة تقيمين هنا منذ عشرة أعوام، كفاكِ تأليفًا للقصص..

_ أين طبيبتي لتأتِ بالحال وإلا مضغت نفسي، أعرفكِ جيدًا

تريدين سرقة قصتي ..

 

أقتربت ثلاثـة ممرضات وتم زرقها بإبرة في محاولة لتهدئتها وإخماد صوتها..