loader
MaskImg

السرد

يعنى بالسرد القصصي والروائي

رجل الدمية

breakLine

 

 

 

حيدر قحطان/ شاعر  وقاص عراقي

كان يقبض في اليوم الواحد ما يعادل الخمسة دولارات, بمعدل عمل خمس ساعات في اليوم, دولار واحد لكل ساعة. رغم بساطة عمله إلا انه قد حصل عليه عن طريق الواسطة كذلك, فالعمل بثياب دمية كبيرة مقتبسة من الافلام الكارتونية والوقوف في باب أحد المولات التجارية لجذب العوائل والأطفال تحديدا, يحتاج إلى الواسطة كذلك.
كان يمتلك نموذجين من الثياب, الأول للقط توم والثاني للفأر جيري, كونهما أشهر شخصيتين كارتونيتين يعرفهما الأطفال وحتى الكبار. كان يرتدي الثياب بالتناوب, لا يكرر ذات الشخصية ليومين متتاليين, كنوعٍ من التنويع وكجزءٍ من التعليمات التي تلقاها عند استلامه الوظيفة, الوظيفة التي لم ولن يقبل بها أحد, لبساطة ما يستلمه من أجر في المرتبة الأولى والثياب التي يجب عليه ارتداءها في المرتبة الثانية.  كان كأي دمية لا يشعر بالسعادة, ويقوم بالعمل كأنه روبوت آلي, يلوّح بيديه للعوائل التي تقترب من باب المول التجاري, مع القليل من الحركات البهلوانية, دائما ما كان يبدو مظهرهُ كمجنونٍ أو كشخصٍ يقفز عاليا ليشاهد سيارة قادمة من بعيد.
لا أحد من أصحاب المحلات التجارية المطلة على الشارع والتي يكون تجمعهم في الخارج عن اوقات الفراغ, لا أحد يعرف شخصية رجل الدمية, ولا المكان الذي جاءَ منه, هل لديه عائلة؟ هل هو متزوج؟ هل يسكن في مركز المدينة أم هو من الأطراف؟ لا أحد كان يعرف غير أنها دمية تقوم بواجبها على أكمل وجه, من دون تذمر أو كلام, لم ينطق بأي كلمة على الأطلاق. هل يحق له الاعتراض على شيء أو حتى التذمر؟!. كان اغلب الأطفال يحبُ التقاط الصور معه أو مَسْكهُ من يده ومحاولة اخذه معهم إلى البيت (بعض من التصرفات العفوية التي كانت تحصل), والبعض كان يضربه عندما يرتدي زيّ القط توم كونه يمثل دور الشخصية الشريرة, غير المحببة بالنسبة للأطفال حتى وإن كانوا لا يميزون جيدا بين الشر والخير. 
سأله أحد الأطفال: "هل أنت حقيقيّ؟"
أجابه/ أجابته الدمية من دون تردد: "بالتأكيد لست حقيقيا".
كانت المرة الأولى والاخيرة التي تتكلم بها هذه الدمية.
إنها الحقيقة الوحيدة التي يعلمها, ليس حقيقيا بما يكفي ليكون حاضرا في هذا العالم, ويشارك الآخرين في الكلام أو الطعام أو حتى تبادل القُبل, كان إحساسه بأنه مهمشٌ في عالمٍ كهذا لا يفارقه. كان دائما يردد في داخله "لا حاجة لإثبات وجودي في مجتمعٍ كهذا, الكل يسير عكس التيار, اذا كان هناك تيار في الأصل, الكل يريد الحصول على كل شيء في بيئةٍ لا تحتوي على شيء. أن تكون متواريا عن الأنظار أمرا لا بُدَ منه, فالظلام عندما يخرج للضوء, يموت."
في أوقات كهذه من كل عام ترتفع درجات الحرارة بشكل كبير جدا, حتى في الليل فهي لا تقل عن الاربعين درجة. بثيابٍ  خفيفة يشعر المرء بأن جسده يغلي, أما جسده المغلف بثياب الدمية من كل مكان ولا توجد فيه إلا أماكن قليلة للتهوية, هواء لا يكفي حتى لتبريد أصبع قدمه الصغير, كان الأمر صعبا للغاية, كأن أحدهم قام بتشغيل مدفئةً قُرب جلده وأضاع جهاز الإطفاء. توالت الأيام والعمل هو ذاته; أطفال مزعجون وآخرون لطفاء, فتيات بدينات, واخريات جميلات, عوائل تبدو حزينة من الخارج, الحزن يطفو فوق أيامها بشكلٍ ملحوظ, أشكال وألوان يراها يوميا أثناء القيام بعمله, كان يراقب العالم من خلف قطعة قماش بدأت تهترأ من كثرة الاستخدام, يراقبه بطمأنينة من ليس لديه شيئا يخسره. أستمر الوضع طويلا على ما هو عليه, حتى ظهرت في أحد الأيام, وفي الجهة الاخرى من الشارع وتحديدا عند باب المول التجاري المقابل للذي يعمل به, ظهرت دمية تُحُرك بيديها كما يفعل هو, كانت قد بدأت بعملٍ يُشبه عمله ولكن على الجهة المقابلة له. كان الجوُ ساخنا جدا, كنظرات فتاة مراهقة, وعوائل قليلة تدخل إلى المول, مما جعله يتمكن من التركيز بالدمية جيدا ومشاهدة ما تقوم به, كأنه يقول في داخله "أنها مبتدئة جدا, تحتاج إلى المزيد من التعلم والممارسة".
مضت الأيام برتابة مملة, أطفال تصرخ ونساء تتشاجر مع ازواجها, عجائز تسير ببطء بسبب تقدم العمر وأمراض المفاصل. أما التغيير الوحيد هو أن الدمية الأخرى بدأت تتقن عملها شيئا فشيء, وتسعد الأطفال بطريقة مسلية, كأن تقوم بحركات لم يقوم بها هو في السابق; حمل الطفل عاليا ورميه في السماء; الغناء بصوتٍ مرتفع, حتى أنها كانت تعزف في بعض الأيام. أما هو فقد توقف عن تبديل ثيابه بالتناوب واستقر على دمية القط توم, لم يهتم كثيرا بما سيقوله صاحب العمل أو ردة فعل الأطفال وضربهم له على قدميه, كان يمرُّ بمرحلة تهميش كبيرة.
من اللحظة التي عمل بها لم يتكلم مع أحد, عدا جوابه على سؤال الطفل, صامت جدا, كأن سلك الكلام لديه أصابع عطب ما, يقوم بعمله بصمتٍ وملل. بين الحين والآخر كان يحاول الجميع معرفة الشخص الذي يرتدي زيَّ الدمية هذه, من باب الفضول أو حتى التطفل, لم ولن يصلوا إلى نتيجة تُشبع فضولهم وتطفلهم.
هَوَتْ الدمية على الأرض, لم يعرف أحد السبب, كان فرصة لا تُعوض بالنسبة لأصحاب المحلات للتعرف على من يختبئ تحت الثياب هذه, بينما يقدمون المساعدة له يعرفون من هو, هكذا خططوا قبل انطلاقهم نحوه, امسك احدهم رأس الدمية ونزعه عن الجسد, كان الجميع ينتظر رؤية الوجه الذي سيظهر لهم, لكن, لم يظهر شيء أبدا, كان فراغا كبيرا تحت الثياب, لا أحد يرتدي الدمية!
كان حقا غير حقيقيّ.