loader
MaskImg

السرد

يعنى بالسرد القصصي والروائي

رغم الظلمة.. رغم النوم

breakLine

 

طارق إمام - كاتب مصري

 

 

لا نذكر أي شيء عن اللحظة التي داهموا فيها منازلنا، وانتزعونا من فوق أسرَّتنا بينما كنا نغوص في منامات عميقة، أشبه بموتى لا تربطهم بالحياة سوى أنفاس مضطربة، لنجد أنفسنا في ذلك المكان الفسيح المظلم، فيما يشبه قاعة عرض مهجورة، قبالة شاشة ضخمة مضاءة.

كنا قد بدأنا بالكاد نشعر بالألم، الآن، في مناطق مختلفة بامتداد أجسادنا، استشعرناه تدريجياً يتعالى، دون أن نتمكن من تحسسه. كانت هذه هي اللحظة التي عرفنا فيها أن أيادينا مقيدة إلى الكراسي، وكذلك أرجلنا. ألسنتنا فقط كانت تتحرك، مستشعرةً لزوجة الدماء التي تسيل من أنوفنا وأفواهنا.

نعم.. كنا وقتها نسبح في أحلام أكيدة، ولابد أنهم حين اقتحموا غرفنا لينتزعونا من الأسرَّة لم يواجهوا مقاومةً تُذكر.

كانت وجوههم _ التي تعرَّفنا عليها رغم الظلمة، رغم النوم _ مألوفةً لكل شخص في المدينة، وخُطاهم المنتظمة التي تدك الأرض تكفي لكي يفتح الجميع الأبواب قبل أن يطرقوها، ومسدساتهم مشهرة كما رأيناها دائماً: آلات عزف يفشل مستخدموها في توظيفها من أجل لحنٍ جيد.

كل ما نذكره عن أنفسنا أننا أفراد فرقة موسيقية، تعزف في مسارح مرتجلة بامتداد المدينة. نستخدم آلات نحاسية وكهربائية، ولا مكان لدينا للموسيقى الشرقية، إنه شجن مفتعل: شخص ينكفيء على عود، آخر يتصلّب رافعاً نايه لأعلى. ليست لدينا ذكريات بعد. نحن صاخبون. الرجال عندنا يشبهون الفتيات، ربما حد استحالة التفرقة، وكذلك من يحضرون إلينا من أقاصي المدينة. إحدى أشهر أغنياتنا نؤديها ونحن نمارس الجنس. من أصوات التأوهات، والشهقات، واللهاث، من أصوات اللعق المنهمكة الخفيضة، وصرخات اللذة التي تشبه أصداء الندم، ومن تقلبات الأجساد على خشب المسرح المؤلم، تخرج الأغنية. ربما نهدد الأمن العام، لكن ليس بسبب إباحيتنا، ففي هذه المدينة لا تمثل أشياءٌ كهذه تهديداً. هناك أشخاص يُقتَلون، يحدث ذلك كلما دندنوا بأغنية لنا. كل من يغني أغانينا خارج  قاعاتنا المغلقة، يُقتل، بطعنة في حنجرته. كانت هذه هي التهمة الموجهة لنا، كأن الموسيقى منشورنا السرّي.

كان لابد أن يقتادونا، أثناء مناماتنا تحديداً، لأن ذلك كان يحدث دائماً ونحن نحلم.

في لحظةٍ ما ازداد الألم، كأننا كنا نتخلص تدريجياً من مخدر، فبدأنا في الصراخ، وفقط في هذه اللحظة بدأت ظلالنا، ظلالنا العارية، تتحرك على الشاشة الضخمة البيضاء، بينما تتوالى أحلامنا أمامنا على الشاشة، بالمشاهد الدموية التي شهدتها، والتي لم يتخيل أحدنا أن شخصاً سواه قادرٌ على رؤيتها، بنفس دقة الرؤيا التي يعجز أيٌّ منا عن سردها، بل إن بعض تلك الأحلام كنا قد نسيناه أو كدنا. حتى أدق التفاصيل كانت حاضرة: أصوات الأعيرة النارية الممزوجة بالعزف، وألوان الدماء، ووجوه القتلى.

كنا قتلة المنامات رغم أن نقطة دماء واحدة لم تكن عالقة بملابسنا وهم يحملوننا لنُكمل أحلامنا هنا. فوجئنا بهم يخبروننا أن علينا أن نذكر الدوافع، غير مصدقين أن قتلانا شُيِّعوا بالفعل إلى المقابر في الصباح، بينما كنا نغص في نوم عميق أبطاله ضحايا جدد، أخبرونا أنهم في حالة خطرة بدورهم.

لم نُصدِّق. كان ضحايانا حبيبات، وآباء وأصدقاء وأبناء. أخبرونا الآن فقط أنهم وُجدوا مطعونين أمام عتبات منازلنا، مطعونين في حناجرهم. قالوا إن الجرائم نسخٌ طبق الأصل من أحلامنا بها، وإن لا داعي للإنكار. لم يكن بمقدورنا الآن أن ننظر لأنفسنا كمحض حالمين، واستطعنا أن نصدق أن الدماء التي تغرقنا_ الآن فقط، في هذه اللحظة، كوردات تنبت من العدم_ تخص ضحايانا.

عندما أعتمت الشاشة، أخبرونا أنهم بدورهم يحلمون بنا الآن. أصبح واقعنا هو حلم الجلادين. إننا هنا، وهم يحلمون بنا هناك، بعيداً، في أسرِّتهم، في لياليهم المتوحدة، يتوجهون بنا إلى غرف الإعدام، يتركوننا للحظة الموت، وحين يستيقظون في الصباح التالي، ستكون مهمتهم قد انتهت.