loader
MaskImg

السرد

يعنى بالسرد القصصي والروائي

شَاعِرٌ يَسْرِقُ قَصِيدَةً مِن نَّفْسِهِ

breakLine

 


غيث الربيعي / قاص عراقي

 

وضع رأسه على المخدة وهو يتقلّب بملل بعد أن جفاه النوم بالرغم من أن النعاس كان مستولٍ عليه بقوة، شعر بأن هناك شيئاً ناقصاً في يومه الطويل الذي فعل به كل ما هو مخطط له منذ الصباح الباكر ، فيومه لا يمكن أن يسير دون أن يخطط له ، حيث كان يضع جدول أعماله في اليوم منذ أن يفتح عينيه من النوم ، لكن في نهاية هذا اليوم كان هناك شيء لم يفعله ، وهو غير موجود في جدول الأعمال ، يجعله مستيقظاً بعدم راحة . فجأة ، أحس بألم خفيف في صدره ، ولعله لم يكن ألماً ، شيء يشبه قفزات المعدة لحظات الجوع ، لكنه لم يكن جوعاناً ، بل قد أكل منذ أقل من نصف ساعة ثم خلد بعدها مباشرة إلى النوم ، وهذه هي الطبيعة جعلت من كرشه يمتد أمامه ببضع سنتيمترات . علم أنّ في الأمر قصيدة ، قام من فراشه وتناول ورقة وقلماً من الحبر الجاف يكاد ينفد حبره ، ثم كتب قصيدة نثرية من ٢٧ سطراً . حينما أتم القصيدة نام بهناء .
استيقظ صباحاً سابحاً بعرقه فتذكر بلحظة عدمية أنه يعيش وحده في غرفه قذرة لمدة عامين منذ أن فقد زوجته البالغة من العمر خمسين عاماً وولديه بحادث سير على الطريق السريع ، ومن ذلك الحين أصبح شاعراً لا يستهان به ، اشتهر بعد عام من كتابته للشعر ، وطبع ديوانه الأول بعد نصف عام من شهرته بعنوان (غمامات) فلاقى رواجاً كبيراً في الأسواق ، مما أثار الشكوك الكبيرة بقدرة الشاعر على الكتابة ، فإن كان هناك شاعر كبير مثله يستطيع أن يكتب هذه القصائد العدمية العظيمة ، فلماذا يظهر نتاجه في الربع الأخير من حياته ؟ ولماذا لم يكتب في فترة شبابه ؟ هل يمكن أن تكون هذه القصائد قد كُتبت له وطبعتْ باسمه ؟ أو سرقها من شاعر مغمور لا يعرفه أحد ؟ وكان يرد على كل تلك التساؤلات بجمل قصيرة لا تقتل الشكوك أبداً :
_ من لم يذق الوجع لن يُصبح أديباً ، لقد كنتُ مرفّهاً ، فلم أعرف ما هو الشِعر . 
كان الاستيقاظ صباحاً في أيام صيف بغداد أشد وطأة من قيظ جهنم التي لم نعرفها مطلقاً . قام من فراشه واغتسل بماء الخزّان الحديدي الموضوع بمواجهة الشمس فوق سطح المنزل ، فنزل عليه الماء في الحمام ساخناً كاد أن يسلخ جلده . 
خرج من البيت سالكاً إحدى طرق بغداد المزدحمة ، ليصل إلى مقر الجريدة التي يعمل فيها منقحّاً لغوياً كونه يحمل شهادة الدكتوراه في اللغة العربية ، وصل إلى مكتبه بعد ساعة ونصف بالرغم من أن مقر الجريدة لم يبعد عن بيته سوى ثلاثة كيلو مترات . جلس أمام الكمبيوتر وبعد جولة خاطفة على ما لديه من نصوص يراد منه تنقيحها ، انتبه إلى وجود إشعار يخبره بوصول رسالة لم تُقرأ بعد في إيميله ، فتح الإيميل ، رأى أن اسم المرسل لم يكن سوى حروفاً انجليزية متقطعة تتخللها بعض الأرقام . 
_ مرحباً دكتور ، أنت لا تعرفني ، لكني أعرفك جيداً ، عندي قصيدة أريد منك تنقيحها لغوياً ، وأكون شاكرة منك . 
من طريقة شكرها تبيّن له أن المرسلة أنثى ، ولكن لا توجد صورة شخصية ولا أي شيء يثبت هذا عدى تاء التأنيث المربوطة في كلمة ( شاكرة ) وهذا لا يثبت بالدليل القاطع أنثوية المرسل ، فقد يكون ذكراً وأخطأ بكتابة الكلمة سهواً ، وهذه تحدث كثيراً .
_ حسناً ، ابعث لي النص .
توقع أن المرسل منفصل عن شبكة الانترنت ولن يرد عليه إلا بعد وقت طويل حينما يرى رسالته ، لكن توقعه كان خائباً ، لأن المرسل رأى رسالته حالما وصلته ، وكتب ليرد عليه :
_ ولكن ألا تريد أن تعرف اسمي ؟
_لا حاجة لهذا ، أود أن أعرف الشعراء من خلال قصائدهم لا أسمائهم ، القصيدة هي من ستصنع هويتك .
وصلت القصيدة ، ولما رآها جحظت عيناه ، وصار بركاناً من الغضب ، كانت القصيدة نثرية مكوّنة من ٢٧ سطراً ، فنقر على الحروف في لوحة المفاتيح بقوة وهو يكتب رداً :
_ هذه قصيدتي ، من أين أتيت بها ؟!
_ كتبتُها ليلة أمس .
_ وأنا أيضاً كتبتها ليلة أمس .
_ أتظن أنك تعرف نفسك يا دكتور ؟
هنا توقف عن الكتابة ولم يعرف ماذا يجيب ، فكتب بلحظات تيه :
_ أعرفني ولا أعرفها .
_ إن كنت لا تعرف نفسك ، لمَ تسرق منها القصائد ؟
_ لا أدري .
_ ألا تعرف أي شيء ؟
_ الجهل نصف المعرفة .
_ لماذا تعذّب نفسك بكتابة هذه القصائد ؟ لماذا لا تبقيها داخلك ؟ فكر جيداً بهذا الخيار يا دكتور ، قد يُهلك المرء نفسه بنفسه وهو غير مدرك . 
أغلق الدكتور جهاز الكمبيوتر دون أن يرد على الرسالة الأخيرة ، وخرج من مقر الجريدة إلى البيت دون أن ينجز عمله ، ولما وصل إلى البيت اتصل بدار النشر وأمرهم بإيقاف الطبعة العاشرة من ديوانه الأول ، ثم عاد ومزّق كل المسودات والقصائد التي كتبها . ثم عاد ليجلس أما جهاز الكمبيوتر الشخصي ليرد على المرسل ، لكنه تفاجأ بأن المرسل قد اختفى تماماً هو ورسائله .