loader
MaskImg

السرد

يعنى بالسرد القصصي والروائي

طريق الخلاص

breakLine

عبد الكريم جماعي/ كاتب تونسي


(كانوا فتية في ريعان شبابهم..كأمثالهم يطاردون في خيالهم بصيصا من نور الأمل الساطع الذي يدفعهم دفعا لكي يحفروا في الصخر طريقا للمستقبل أقل بؤسا..لم يحصّلوا من التعليم سوى سنوات تعدّ على أصابع اليد الواحدة..فقد حرمتهم شدّة الفاقة و الاحتياج من المضي أكثر في سبيل تحصيل العلم..فاكتفوا باعانة الأهل في مشاغلهم البسيطة..التي لا تتجاوز القيام من حين لآخر بتلك الاعمال الفلاحية المعتادة من حرث و تقليم وحصاد في مواسمه أو رعي رؤوس الأغنام في ذلك الجبل النائي في باقي الأيام..!
صيفا كانوا يجتمعون للسهر كل ليلة على سطح معصرة زيتون قديمة أو في فنائها اذا حل الشتاء..يتحلقون حول ضوء خافت منبعث من مصباح زيتي..يلوكون بقايا  حكايات أغلبها تافه تدور حول بعض الاحداث الجديدة في قريتهم..حتى اذا أصابهم الملل انشغلوا بلعب الورق و طبخ الشاي..!
وفي احدى تلك الليالي الباردة..دلفوا الى مكانهم المعهود داخل المعصرة التي هي عبارة عن كهف محفور تحت الارض.. اتقاء للزمهرير الذي كان يصفع الوجوه بقسوة..لم يشعروا بالدفء رغم التحاف أغلبهم ببرانيسهم الصوفية..أضاء أحدهم الفانوس..انهمك الآخرون في اشعال النار و تحضير الشاي..اتخذوا ركنا جانبيا.. جلسوا على الأرض..بعضهم اتكأ على أكياس مليئة بالزيتون..البعض الاخر وضع ظهره الى الحائط..بينما جذب المكلف بطهي الشاي "بردعة" وجدها هناك.. قبع بجانبها واسند عليها مرفقه الأيمن..ثم قرّب إليه "الكانون" وشرع في مهمته بفرح و نشاط..أخرج أحدهم من جيبه ورق اللعب..وبسرعة كوّنوا حلقة من أربعة لاعبين..بعد جدال قصير حول من يبدأ أولا..ثم اتفقوا على قاعدة خروج المغلوب..و بدأ الحماس يشتد حينا و يخفت حينا آخر..تتخلله ضحكات و قهقهات..غير أنّ أحد المتفرجين الذي اعتاد دائما عدم المشاركة.. خيّر الانزواء عنهم قليلا..ملتفّا في برنسه في انتظار كأس الشاي..وماهي الا لحظات حتى غطّ في نوم عميق..و تعالى شخيره بوضوح تام..لم يعره الآخرون في باديء الامر أي اهتمام..فهم يعرفون عادته تلك..فقد كان شخصا منطويا ذا عته غير خفيّ و بلاهة ظاهرة في كل أفعاله و سلوكه..حاولوا ايقاظه دون جدوى..حتى اقترح عليهم أحدهم  تنفيذ دعابة سمجة..علّها تغيّر الجو الكئيب بعد أن سئموا من لعب الورق..و لكي يضعوا حدا لتصرفات هذا النديم الذي ينام باكرا كل ليلة..قاموا بوضع الاكياس المملوءة بالزيتون فوق بعضها عند مدخل الباب..ثم أطفئوا فانوس الإنارة فغرق المكان في ظلام دامس..اقترب أحدهم من رفيقهم النائم..وخزه ببطء حتى أيقظه من سباته..ليناوله كأسا من الشاي..بينما أحكم الآخرون تمثيل دورهم باتقان..تعالى هرجهم و صخبهم كالمعتاد كأنهم مازالوا يلعبون..كان المسكين يحاول جاهدا تبيّن ما يدور حوله..فتح عينيه مرار لكنه لم ير شيئا..وضع كأسه على الأرض..ثم أصغى مليا مرة أخرى..كانت تصله نفس الأصوات التي يسمعها كل ليلة قبل أن يغلبه النعاس فرفاقه كعادتهم بصدد اللعب..انتابه الهلع من ان يكون قد أصيب بالعمى..فكل شي حوله سواد في سواد..قام من مكانه وهو يفرك عينيه..ثم أخذ يتلمس الجدار علّه يجد باب الخروج..دار دورة كاملة..لم يجد شيئا..بدأ في الصياح بأعلى صوته..أسرع البقية في ابعاد الاكياس التي وضعوها في المدخل..فالمسرحية انتهت..بان بصيص من النور..اندفع ذلك المسكين يجري نحو مصدر الضوء..وجد نفسه أخيرا خارج الكهف..تنفس الصعداء ثم خرّ مغشيا عليه..!!!!)