loader
MaskImg

السرد

يعنى بالسرد القصصي والروائي

"فرات "

breakLine

 


 

زينب رحيم – قاصة عراقية

في يوم من أيام شهر ديسمبر كان شارع قطاع 28 مُكتظاً بالمارة، اعتدت على أن لا أوثق الأحداث، لا أهتم بالتواريخ، لا أعنون في ذاكرتي ما حَصل، أو ماذا سيحصل، لكن أؤمن أنني إنسان حَمل على كتفية  ثقلاً كبيراً،  كأن تكون سنين مأزق وطنه.
يومياً، وفي كُل صباح ، يبدأ روتيني أتمعن بعمق بالغ في سيارات المارة، في صافرة شرطي المرور، في غضب عامل البناء، في استعجال الموظفين خلف مقود السيارة،  أتمعن في رداء الغيوم، والطلاب يتشابهون في صنعة البياض. كُل ما هنا يجري على وجه التمام، ولكن تلك الأطفال التي تزعق من صعوبة العيش، من يرأف بحالها، انظر إلى أطفال وَطني كيف ترعرعوا في أزمات الشوارع، كأنهم طَيف ملائكة واقعين في شباك المعيشة، من يخلصهم من هذا الضياع!
النقطة الأكثر وجعاً هو أن اصبح في وطني كُل شيء يُقال عنه  طبيعي وعادي، حتى ذلك الحزن المُبكر الذي ظَهر محدودباً على عمر تلك الصغيرة ، رأيتها تجلس على حرارة الرصيف بأسى بالغ ، تقربت نحوها فوجدتها مُبتلة بالخذلان تتصبب عرقاً من حرارة الأيام، ليتني لم أر قميصها المُمزق على كتفيها ، وشعرها المُنهمر على وجنتيها بانكسار عظيم،  كأن اعصارا زعق في وجهها بلا رحمة، ارى الغبار بدا واضحاً على رمشيها المُثقلين بالدموع... جَلستُ قبالتها علنيّ أساعدها، قُلت لها وراحة يدي أخذت تداعب خصلات شعرها بلطف:
_ كيف حالك يا عزيزتي؟ 
نظرت إليّ بامتعاض دون إجابة.
أيقنت بذلك الهلاك الذي يحتل دواخلها، وكيف خطف ملامح طفولتها الضائعة بين أشلاء السيارات،  وغبار الأحذية.
طأطأت رأسها نحو الأسفل ووضعت يداها على جزمتي، وقالت:
_ سيدي أتريد أن امسحها؟
قُلت لها نافياً ، فقط أني أتسائل:
_  طفلة وطني الجميلة ، لماذا تجلس على الرصيف مُكتئبة ، تحتاج  إلى شيء ٍ أساعدها بهِ؟ 
قالت بهيئتها البالية:
_ ايها الرَجلُ الطَيبّ شُكراً لك َ لا احتاج شيئاً،  فقط إنني عطشى ، لم اتناول الماء مُنذ الصباح الباكر ، وإلى هذا الوقت من الظهيرة انا تحت قيظ الشمس. 
ذهبتُ مسرعاً لأقرب دكان يبيع السوائل، وبَعد أن ابتلت عروقها ، وذهب تكدسات وجهها القاحلة من شدة  العطش ، سألتها عن اسمها ، فأنا طوال الوقت لم اكترث بذلك ، أخشى انني اشعرتها بأنها مجهولة الهوية ، ثمَ ان الأطفال يشعرون بالأعتزاز بأسمائهم ، فهو أول سؤال يُطرح عليهم في بادئ الأمر. 
قُلت:
_ طفلة وطني الجميلة أي اسمٍ تحمل؟ 
قالت بفم غير مبالٍ:
_ فُرات.
عند سماع اسمها ، أصدر جسدي رد فعل غير عادية، كأني تراجعت قليلا ً الى الخلف، ثم ما لبثت انَ بحلقت عينياي فيها بقوةٍ، خارج اطار السيطرة ، شَعرت بحرارة الأفكار تضجُ في رأسي كأنها هوجاء ٍ شَمسية . بعد كُل هذا الصَخب من الصمت العارم بالانفعالات ، قُلت بصوتي المرتعد: 
_ أأنتِ حزينة الظمأ وجمعكِ فُرات؟! 
لم تفهم ماقُلت ولم تشعر بلهفة أنفاسي وحرارتها، كان كُل ما حل بيّ ذَهب سُدى أمام إيماءات وجهها غير المُبالية، فهي لا تعرف قط معنى اسمها. أردفت بحماس مرة أخرى:
_ أ رأيتِ من قبل نهرنا العظيم، نهر الفُرات؟ 
أجابت نافية:
_ لا.
ثم اني قُلت لها بطبقة صوت ٍ أعلى من ذي قَبل كأني رأيتها غافلة فأردت إيقاظها:
_ انتِ تحملين وساماً ممتزجاً بالفخر يا فُرات؟ اسمك يُشير إلى نهر جميل في العراق يروي العيون بفيض جماله، يجري داخل الأراضي العراقية حيث يلتقي في الجنوب مع صديقه نهر دَجلة، كُلما اقترب الناس على اختلافهم بقربهُ غنوا جميعاً فُرات ، فُرات. 
ابتسمت ببراءتها السماوية وقالت بإلحاح:
_ اُريد رؤيته، ذلك الذي يشبه اسمي!
تخطينا مسافة كبيرة ونحن نتجه نحو النهر ، كانت فُرات طوال الوقت تنظر إلي ضاحكة، كأنها تتأرجح فرحاً بقدومها إليه، وبينما اصبحنا قريبين من جانب اطلالته أخذت أمواجه المتلاطمة توحي لنا بأنه مهما شاخت الحروب و الالام على العراق سيبقى شامخاً ينبوع روافدهِ. شَعرت وانا واقف أمام عمره الكبير بثقة عالية بالنفس كأنه ذات الشعور الذي ألقيت به قصيدتي الأخيرة عن الوطن وكيف صفق لي الجمهور بقوة عالية كأنها ذات الأصوات المُنسابة من النهر.  ثم زاحمت انتباهي اصوات شتى، شيء من صوت الرياح، النوارس ، صوت تدفق عالٍ من منسوب المياه المُرتفع ممزوجاً بصوت نايٍ مفجوع، أومأت برأسي كالمجنون الى الأعلى، نحو الأسفل، الى جانبي، فوجدت فُرات منهارة بالدموع، جالسة على ركبتيها، ورذاذ الرمل يحوي كاحلها، انصرعت متفاجئاً من حالتها الطارئة،  فَقبل سويعات كانت متعطشة لرؤية نهر الفرات،  وكانت مُبتهجة فرحاً، مالذي ادماها، وأجج غيظها.
وقفت متجمداً، دون اصدار اي رد فعل كأني صعقت بسلك كهربائي، وبين تذبذبات صوتها الحاني كأن فرات بدأت تئن بوضوح، كلمات تخرج من فمها مرتبطة بألم عظيم... أمي، أبي.
وبعد أن هدأت من روعها، اخبرتها: ان لم يعجبك هذا المكان، نذهب لغيره ، سأشتري لك الحلوى والمأكولات التي تحبينها.
قالت:
- أهلي ماتوا جميعاً ابتلعهم هذا النهر البائس دفعة واحدة، كنت صغيرة حينما جئت الى هذا المكان لأول مرة كي اودعهم، حتى في حينها لم يكن في جعبتي علم باسم هذا النهر  واقترانه باسمي. أتعلم!  ... كُل الجمال الذي تنشدون بهِ عن هذا النهر، تمطرونه بوابل الكلمات البراقة، وما هو إلا نابع من بقايا أرواح عراقية عالقه في جوفه!
قُلت متمتماً بشيء من الحسرة 
_ أُريد أن اقدم لكِ شيئاً.
_ أريد عائلتي فقط! 
قالت بأسى مرة أخرى بعدما رأتني أطاطأ رأسي خجلاً.
_  تستطيع؟! ... تستطيع؟!