loader
MaskImg

السرد

يعنى بالسرد القصصي والروائي

فصل من اليرابيع السوداء

breakLine

 

 

جيلالي عمراني/ كاتب جزائري


-" الأمر غير صحيح، قلت لك هذا ربما بدافع الشفقة على روحي الغارقة في الدّم، رافقتني هذه المفكرة طويلا قبل كريستينا، قبل أن أعرفك، لكن لم أكتب شيئا، كلما اقتربتُ من ذاتي اقشعر بدني، ربما كنت أتشاءم من الوقوف أمام نفسي عاريا، هي مفكرة "اللّعنات" لعنات رافقت حياتي وربما حياتك و ربما أجيالا من الجنود الفرنسيين طيلة هذه الأزمنة المتعفنة، المفكرة هي قطعة من ذاتي،لكن بعد وفاة مامي يبدو لي الوضع تغيّر كثيرا يا دانييل، قبل أيام كنت أنوي إرسال هذه المفكرة المليئة ندبات و خدوش لأحد ما، تصوّر ذلك؟ كنت سأرسلها لاسم مجهول، لأنها ليست حكاية عائلية، هي حكايتنا نحن، يومياتنا في هذا الجوّ الهلامي، المتعفّن، قد تقول لي لماذا لم ترسلها للصحافة؟ وهل تظنّ أن صحافتنا لها الجرأة لتنشرها، هم أيضا شركائنا في هذا السّراب، في هذا الدمار، نعم هم أيضا لهم كامل المسؤولية في هذا الجنون الذي أصاب قادتنا. بالصدفة فكرتُ في إرسالها لامرأة ما، اخترت أسماء كثيرة، فمثلا، قلت سأرسله لبريجيت أو سيمون في "شارع5 المنطقة الخامسة، باريس" من يدري؟ ربما ساعي البريد يجتهد و يجد الاسم في المنطقة، و تكون هذه التي يصلها خطابي ذكية و تتفطن للحيلة التي استعملتها للنجاة من المساءلة القانونية، قد تفعل ما يجب فعله بهذه القصاصات و توزعها بالشّكل المحترم، ثم تراجعتُ بسبب تفاهة هذه النّصوص، لم أكن وحدي من يكتب مذكراته أو تفاهاته، لست وحدي من تؤرقه هذه السّلسة الكبيرة و المتواصلة من الأعمال غير الشّرعية، هذا كلّ ما في الأمر، أعتقد يا صديقي أنها من الأحسن أن أتركها عندك، إنها لك، أو بالأحرى ستكون لك بعد وفاتي، بعد يوم على أكثر تقدير، سأعيش أسبوعا ههه أنا أكذب.
أضاف بعد لحظات من الصمت:
-" هل تعتقد أن الكلاب يموتون بسهولة؟ "
سألته:
-" يا رجل، هل نحن من فصيلة الكلاب؟ ألم تخطئ في ها التشبيه، كنا في وقت ما ذئابا أليس كذلك؟"
-"بلى يا ذئبي الصّغير، كنا كذلك، الآن صرنا جرذانا، أنظر إليّ يا دانييل ألستُ جرذا؟"
ضحك و نام بمجرد وصول رأسه الملتهبة إلى مسند كرسي الطائرة، يشخر كأنه لم ينم منذ أشهر طويلة، يبدو لي في تلك اللحظة أننا دخلنا مرحلة من الجنون، أنا أيضا فكرت فيما فكر صديقي،باختلاف بسيط، كوني أعرف اسم المرسل و عنوانه، وسبق أني كتبت لها رسائل بسيطة، رسائل شوق و حرمان، آخرها قبل ستة أشهر أخبرتها بأمر نقلي من عين إبرة إلى جبل جرجرة، أخبرتها بصدق أني حرمت أخيرا من رتبتي التي أتباهى بها يا باولا "السيد: العريف" تبا لهم، هذه المرة سأرسل لها قصاصاتي التي أكتبها لاحقا في رقان العظيمة. انتبهت أخيرا و صديقي نائم إلى جواري أنه خائن، إذ يعرف شيئا بخصوص مهمتنا في الصّحراء و يخفيها عني، أنا صديقه، صندوق أسراره، ثم يراوغني و يسليني بكلمات و قصاصات كتب أغلبها بقلم الرصاص، وأخرى غير واضحة و مشطوبة، يعرف أني الشخص غير المناسب لهذه المهمّات القذرة المتعلقة بالكتابة و الذاكرة.
وصلنا فجرا بعد ساعات من الطيران، كنا متحفزين لنعرف هذه المهمة الوطنية النبيلة، نزلنا على أرضية المطار في منطقة لا أعرف عنها شيئا، فقط هي صحراء قاحلة، صحراء ممتدة لا نهاية لها، فاجأني مغصّ في المعدة، في العقل، سمعتُ أحدهم يقول لنا بصوته الجهوريّ: مرحبا بكم في "رقان" شعرتُ حينها أننا سنغادر الحياة بسرعة البرق، مؤشرات كثيرة تقول ذلك، نسير في طابور طويل نحو موتنا المؤكد في هذه البقعة الرملية التي أعجز عن وصفها، بقعة جحيمية حقيقية، أو ربما متنا في مكان ما وها هنا هو المستقر الأخير ما بعد الحياة الصّاخبة، المليئة حروبا و قسوة غير مبررة على الإطلاق، أكتشف تباعا كم كانت حياتي ضحلة! لا معنى لها، فارغة من أي شغف أو لذّة أو فرح، باستثناء لقائي بعزيزتي "باولا" ذاك المساء قبل عامين في ميناء مرسيليا، منذ ذلك الوقت، أتشبث بكلماتها، بطيفها السّاحر، أينما وليتُ وجهي أراها تتبسم، تلاحقيني في بلدة "عين إبرة" و في مدينة "السور" في مدينة الجزائر، لحسن حظي أني التقيتُ بها و عرفتها. أنا لا أمزح، لا أعرف شيئا عن المنطقة، ولا المهمة المسندة إلينا، سوى أننا موتى، أرى الضّابط يتقدم نحونا بخطى واثقة و منضبطة ليستقبلنا، قف، وقفنا. استعد. استعدنا، عيوننا في السّماء، وأنا أسترق النظر إلى النجمتين المذهبتين المعلقتين على كتفيه، استرح.. كلمات مطّاطة، مجحفة، مذلّة في الواقع، على الأقل هذا ما أحسست به شخصيا في تلك اللحظة المبهمة، محدثنا برتبة مقدم لا يضيّع الوقت على ما يبدو دخل في صلب الموضوع، قائلا:
-" مرحبا بكم في هذا المكان الجميل، أنتم هنا في خدمة البلد الذي بحاجة إلى عقولكم و قلوبكم و سواعدكم و سريتكم، أنتم سادة فرنسا بدءاً من هذا الموقف التاريخي، مرحبا بكم في محفلنا المهم، ستبحثون معنا عن البترول و الذهب و كلّ المعادن البديعة الغالية"