loader
MaskImg

السرد

يعنى بالسرد القصصي والروائي

كلاب الغجر

breakLine

 

 

 

 

 

ابراهيم احمد || قاص عراقي

 

ينصبون خيامهم  في ظاهر مدينتنا "أيس" ، بنعومة وخفة، ما يجعلها أشبه بغيوم تحط على الأرض، كأنهم يجلبون بناتهم من جنة السماء أيضاً. الصديق الذي اقتادني إليهم قال لي:
ـ  احذر! " كلاب الغجر؛ تعض الضيوف وأهلها والجيران "
ـ لكنهم طيبون كما رأيتهم يتجولون في المدينة، ولا يمكن لكلابهم أن تكون شرسة وقحة!
ـ ستراهم، وكلابهم عن قرب أكثر! 
رغم إن كلابهم نبحت علينا ونحن نقترب من خيامهم السود، في عتمة المساء، لكنهم أسكتوها، وجدتها دائرة بيننا وتحتف بي مرحبة وتكاد تصافحني، ويمنحني بريق عيونها بين نور الفوانيس الواهن ضوء أمسية غجرية منعشة! نظرت إلى صاحبي منتصرا. أجلسونا على بسط بدوية ملونة مفروشة على الأرض.مصيبتي إنني وقعت بحب إحدى بناتهم! كانت في العشرين رشيقة سمراء داكنة كأنها غصن أبنوس مصقول! كانت بعينين دائبتي اللهب، إذا أغمضت واحدة، اشتعلت الأخرى! حنانها يسري كنسمة عطرة، يظل حاضرا حتى لو انشغلت تداري هذا وتجامل ذاك. والغجرية تكتفي مع الزبون بالرقص والسماح له بحل ضفائر شعرها بسعر محدد، واللمسات الخفيفة بسعر آخر، ولا تعطي نفسها إلا بموثق وعقد وشروط يكون فيها الوالدان شهودا. لذلك رفضوا أن يكون حبنا رومانسيا حالما يشغلها عنهم حتى لو وعدتها جادا بالزواج، قال أبوها:
ـ لا أنت ستصير غجريا، ولا هي ستصير من بنات المدينة! 
فصدمت وتعذبت،  قال لي صديقي مواسيا، أو لائما بلغته وكان شاعرا مرحا:
ـ  أيها الأبله، البنت عندهم أغلى من بقرة هولندية، فهي تدر لبنها ذهبا في جيوبهم! 
لم يغلق أهلها خيامهم بوجهي ولم يحرموني من رقصها ولم تنبح عليَّ كلابهم قادما أو ذاهبا، لكنهم منعوا أية أحاديث حميمة هامسة بين وبين حبيبتي لا وجود لها في قائمة أسعارهم!   
رحلوا فجأة. ورحلت أنا من البلاد إلى دنيا أخرى!  مر نصف قرن من الزمان، أو ألف قرن في الحقيقة! 
عدت إلى بلدي بعد أهوال وتغير أحوال،وعرفت أن النظام السابق سمح لهم أن يستبدلوا خيامهم ببيوت حديثة في ضواحي المدن ، ربما كلمسة إنسانية مستغربة منه أو لأن بعض رجالاته قد تزوجوا سرا بعض نسائهم!  بعض الغجر صاروا أصحاب دور وقصور  ومصالح وثروات ، وقتل بعضهم في نيران الحروب أو هاجروا!  بعد سقوط النظام أفتى بعض رجال الدين المتنفذين أن بيوتهم وثرواتهم قد بنيت من الرقص والغناء فهي حرام ومفسدة، فقاموا بالاستيلاء عليها بسلاح أتباعهم، وبينما هاجر معظم الغجر وعادوا لحياة التشرد استطاع بعض رجالهم ونسائهم التسلل إلى جماعات رجال الدين وأحزابهم أو أسرة نومهم! كأن رائحة الأرض السمراء الساخنة أحيت في قلبي طيف فتاتي الغجرية، حب الشباب النقي المحبط! فحين عرفت بوجود ملهى في بغداد ترقص فيه غجريات دهشت وسارعت في الدخول إليها ممنيا النفس بآخر أحلام الدنيا،واستعادة ذكرى طواها الماضي الطويل ومستحيلاته الكثيرة. ورأيتها! البنت الغجرية نفسها، لا زالت في العشرين غضة يانعة، جميلة جذابة كما كانت،   لكنني لست أنا؛ عجوز تخطى السبعين،ونقش الدهر حكاياته على الوجه واليدين واللسان! ومع ذلك عجبت كيف لم تعرفني؟  تذكرت أن فلسفة الغجر تقول أنهم ومن يحبونهم لا يشيخون، ولا يموتون، ولا يفقدون جمالهم مهما عصفت بهم الأيام، وأنا قد هرمت، وهذا معناه أنني لم أكن أحبهم حقاً، من يحب الغجر لا يشيخ،ولا يموت  يا لها من وصفة سهلة، لماذا لم أحبهم أكثر؟  لم أطر مع تلك الفتاة إلى الجنة التي أتت منها؟ هكذا حدثت نفسي، وأقنعتها  مواسيا! 
كانت دون أهلها طبعا،بعضهم ماتوا مخالفين أحلامهم، بعضهم لم يموتوا مصدقين أحلامهم وإن لم يظلوا على خيامهم ورحلاتهم القصيرة المبهجة بين المدن. ربما تحت تأثير كأس احتسيته على عجل رأيت حول الراقصة كلابا غير تلك الكلاب القديمة، الآن اقرب للذئاب أو الضباع والنمور. أحسست أن عيونهم تحف بها، وترقبني ويتطاير منها شرر كذاك الذي يخرج من بنادق الصيادين! يتهامسون وينظرون إلىّ ،كأنهم يوشكون أن ينقضوا عليً.  
عرفت من حديث دار على مائدة مجاورة أنهم مسلحون جاءوا لحراسة شخص بمنصب كبير في الدولة مغرم بها! لم أر وجهه، كان أمامنا موليا ظهره الضخم لنا، رأيت رأسه المكور المطعج الأصلع ورقبته الغليظة غائصة بين كتفين عريضين.  وتذكرت؛ هذه هي الكلاب التي عناها صديقي قبل سنين وسنين: "تعض الضيوف وأهلها والجيران". لو كان الآن  معي لأقر بذلك، لكن المسكين أكلته أيام غيابي، كلاب أخرى، غير كلاب الغجر! 
فجأة هجم علي عذاب زمان طويل، مكتظ بعواء الذئاب ونباح الكلاب ورقص الراقصات والراقصين،وصياح باعة ومشترين، حتى طغت على الموسيقى الصاخبة في الملهى،ولم أعد أستطيع البقاء!  
ألقيت على البنت السمراء الجميلة الراقصة نظرة أخيرة خيل إلي أنها تلقفتها كوردة ذابلة! وخرجت أجر خطاي، وأتلفت ورائي خشية أن يكون أحد كلابهم  يلاحقني!