loader
MaskImg

السرد

يعنى بالسرد القصصي والروائي

لا يليق به سوى الدخان

breakLine

 

 

عبدالكريم جماعي/ كاتب تونسي  

( اختار  كرسيّا منزويا في الركن الاقصى للمقهى على يسار  الداخل..جلس ثم اعتدل واضعا ظهره الى الحائط..جذب الطاولة الخشبية المربعة ذات اللون البني التي امتلأت بالبقع من آثار اعقاب السجائر حتى أمست كرقعة شطرنج..اتكأ عليها بمرفقيه..ثم أخرج هاتفه الخلوي من جيبه..وضعه أمامه..لم يكن المكان قد غص بالزبائن..فقد لاحظ..بطرف عينه من تحت زجاج النظارات التي أوصاه الطبيب بوضعها مؤخرا..أنّ أغلب الطاولات خالية..الا من بعض الانفار الغارقين في متابعة هواتفهم المحمولة..جاءه النادل مسرعا..مسح اثار الغبار أمامه بخرقة مبلولة..في عملية روتينية..تدل على الاهتمام السمج بأي وافد جديد..كان هو مستغرقا في التفكير..لم تصل الى سمعه كلمات الفتى النحيل الواقف..طلب فنجان قهوة و نرجيلة..استدار العامل في حركة خفيفة..بعد أن هز راسه بالموافقة..وغادره إلى طاولة أخرى قريبة لاخذ بعض الكؤوس الفارغة..
جال ببصره في انتظار طلباته..القاعة صغيرة..سقفها غير مرتفع به بعض المصابيح التي ترسل ضوءا خافتا..مما جعله يجد صعوبة في تبين وجوه الجالسين..زاده غموضا..انبعاث دخان كثيف من الموقد المليء بالجمرات الذي وضع قرب الباب..
جلب له الصبي النحيف ما طلبه..وضع قطعة واحدة من السكر في فنجانه..حركه ببطء..تذوق رشفة على مهل..طعمها المائل الى المرارة كان لذيذا..لم يبلع ريقه بسرعة..أراد أن يطيل فترة الاستمتاع بقهوته الأولى هذا الصباح..تناول خرطوم النرجيلة بيده الاخرى..جذب نفسا عميقا واغمض عينيه..اخرج الدخان من فمه وانفه..دون ان يبعد المبسم عن ثغره..كان يعض على طرفه باسنانه..اعاد الكرة مرة أخرى..كان نفسا أطول هذه المرة..شعر كأن الدخان يسافر في كل مسام جسمه..يتسلل من الحلق الى الحنجرة ثم ينتشر في كل الزوايا..والخلايا..انتعش كعصفور بلله القطر في يوم قائظ..
لم يعد يسمع الا قرقرة رفيقته..موسيقاها التي تصدر في رتابة ساحرة..تغنيه عن الصوت القادم من مسجل قديم معلق فوق الباب الخارجي للمقهى..غاب عن الوجود للحظات كأنه صوفي في احدى تخميراته الروحية..
أفاق مذعورا على صوت يعرفه..يلقي عليه تحية الصباح..كان صديقه الذي واعده على اللقاء في ذلك اليوم..نهض بتثاقل..ففي قرارة نفسه تمنى لو ان صاحبه لم يقطع عليه خلوته السعيدة..لكنه رحب بالقادم بحرارة..فهو لم يأت الى هذا المكان الا من أجله..طلب من النادل الذي كان غير بعيد من طاولتهما فنجان قهوة لمرافقه..أراد أن يكرمه بنرجيلة مماثلة لكن ضيفه رفض بكل لطف ثم طفق يحدثه عن مضار التدخين على الصحة والمال..سكت على مضض وأراد أن يحول وجهة الحديث الى موضوع اخر..غير أن جليسه تمادى في تلك النصائح الغبية..صبر على كلامه..رسم على شفتيه ابتسامة بلهاء حتى يتفادى الصدام معه..فهو لا يطيق من يتدخل في اموره الشخصية..ولكي يحسم هذا الموضوع الذي ازعجه وهو في قمة نشوته..قال له بحسم وفي لهجة أقرب للسخرية( اسمع يا صديقي..الصدر الذي لا يحمل الميداليات..لا يليق به سوى الدخان)