loader
MaskImg

السرد

يعنى بالسرد القصصي والروائي

ليلة الخميس

breakLine

 

 

 


برهان جليل || قاص عراقي

 


كانت فريدة، تستيقظ كل يوم خميس، مبكرة، تنظف المنزل بنشاط، رغم تراكم سنيّ عمرها. كانت تقول لنفسها أمام المرآة، وهي تصفف شعرها الرمادي الطويل، (أنتِ جميلة رغم كل شيء). وكلُّ ساعة تُـذكّر نفسها، (إنه يوم الخميس، موعد عودة حبيبي، قال إنه سيعود يوم الخميس، حبيبي، أجمل الرجال). لم تكن ترد على رنّات هاتفها، فقط تنظر إلى أرقام المتصلين، وتتأفف متذمّرة وهي تقول، (ألا تعلمون بأن اليوم خميس؟ ياللوقاحة).

كانت تنتظر المساء بفارغ الصبر. أعدّت الطبق الذي يحبه رجُلها الغائب (كبّة حلب مع سلطة التبولة والنبيذ الأحمر). كانت قد أعدت كل شيء منذ الساعة الرابعة عصراً، العشاء والشموع الحمراء الطويلة على المائدة الدائرية قرب النافذة. ولبست فستانها الحليبي اللون المطرز بالذهبي، الذي كان حبيبها يتغزل بها كثيراً حين تلبسه.

وقفت أمام المرآة للمرة الأخيرة، لتَدهن شفتيها بالأحمر الداكن، وتقول لنفسها مبتسمة، (حسناً يا حبيبي، أنتَ لا تحب المكياج، ولكني أضع هذا الأحمر فقط لأجلي أنا). وأخيراً علّـقت التراجي (الأقراط) في أذنيها، وراحت تحرك رأسها يميناً ويساراً منتشيه، وهي تفكر، (حبيبي يحب رؤية التراجي في أذني).

قبل مغيب الشمس جلست إلى مائدتها الدائرية قرب النافذة، تنتظر بشوق قدوم رَجُلها، كعادتها، منذ سنوات عديدة وطويلة، توقفتْ عن عدّها.

كانت تفكِّـر، (حبيبي لا يكذب أبداً، عندما يقول سيأتي يوم الخميس، فسيأتي حتماً، لقد وعدني بذلك، لابدّ أن يأتي، فلدي الكثير لأخبره، آه ه.. كم أفتقده، إنه رَجُلي الذي أعشقه).

فكّرتْ مع نفسها، (إن كل شيء مُعَدٌ لقدومه، فهو يدقّقُ بكل التفاصيل، يجب أن يكون كل شيء مُرتّباً ونظيفاً، إنه حبيبي ويستحق كل ما أفعله لأجله).

قالت وهي تنظر في مرآتها الدائرية الصغيرة، (هذا اليوم ليس كباقي أيام الخميس التي مَضت، إنه يوم مُميّز، إنه الخميس الأول من شهر أكتوبر، شهر حبيبي المفضّل، فقد كان كلُّ شهر أكتوبر، يأخذ إجازته السنوية، ويحضر لقضاء عطلته معي)، وأكملت تدغدغ السعادة قلبها الضعيف، (إنه يوم الخميس)، وسَرَتْ قشعريرة لذيذة في جسدها النحيل وهي تتخيله يعبث بشعرها.

قالت لنفسها (سيعود ليراني بأبهى صورة، إنه يحبُّـني، أعلم ذلك جيداً، لقد قالها لي مِراراً، بأنه يحبني ويعشقني، إنه لا يكذب ابداً، أعلم ذلك. سيعود، وسيعيد قولها لي بصوته الرخيم الدافئ، أحبك يا معشوقتي).

كانت تنظر صوب الباب الذي كان يودِّع الضياء الأخير للشمس الغاربة، من خلال النافذة المفتوحة عندما رنَّ هاتفها، نظرتْ بلا مبالات إلى رقم المتّصل، كان الرقم مجهولاً. فتحتْ الخط وقالت، (ألو...) أتى صوتَـه الذي تعرفه جيداً من خلال سمّاعة الهاتف قائلاً، (أنا قادم حبيبتي). وقبل أن يكمل جملته، فُتح باب الحديقة الخارجي، ودخل رجُلها، عليه آثار سفرة طويلة، يحمل حقيبة صغيرة على كتفه، أنيق كعادته بلحية قصيرة مشذبه. ظل واقفاً هناك عند الباب ينظر إليها، وهي واقفة تسند وجهها بيديها على حافة النافذة المفتوحة تُحدِّق فيه بفرح غامر، وقلبها يكاد يقفز من صدرها، ينبض بجنون، مثل عصفور وجد طريقه إلى الحرية.

فكّرت في نفسها، (إنه هو، حبيبي)، مَسَحَت دموعها بيدها التي سالت على وجنتيها مبتهجة. قالت متسائلة بصوت متهدج أنهكه الانتظار الطويل، (حبيبي؟ أهذا أنت فعلاً؟ لقد عُدتَ؟) وأشارت له بيدها قائلة، (تعال، تعال أدخل).

دخلَ غرفة المعيشة، وتعانقا طويلاً. كان لايزال منتصب القامة رشيقاً ووسيماً، مَلَـئَت رئتيها بعطره جسده الرجولي المُميّز وهي تلصق وجهها على خدّه.

سحبته من يده إلى المائدة الدائرية حيث العشاء والشموع الحمراء الموقدة. كانت تنظر إليه وهو يأكل بشهية، وينظر إليها بإعجاب. لم تأكل هي، فقد انشغلت بنظراته المثيرة. كانت تضع في فمه بعض اللقيمات وهو يأكل سعيداً باهتمامها به.

نهضت عن المائدة، ووضعت شريطاً موسيقياً. ورقصا معاً على أنغامها بضع دقائق وهي تضع راسها على كتفه مستسلمة بسعادة، ثم قالت له، (حبيبي، لدي الكثير لأخبركَ به، سنين طويلة من حكايا الشوق والانتظار، ولكن دعنا نذهب الأن إلى الفراش، فقد داهمني الإعياء والتعب). قادها إلى فِراشها وهي متّـكئة على يده، تجرُّ قدميها، وقد انحنى ظهرها، وبانت عليها آثار سنوات التعب والمرض والوحدة والانتظار الطويل.

 استلقت في فراشها، وجلس هو على حافة السرير، ممسكاً بيديها المعروقتين يقبّـلهما وينظر لها بحب. قالت له:
- لا تقلق عليَّ، سيكون كل شيء على ما يرام، لا تقلق، لقد وَفَـيْتَ بوعدكَ وعُدت أخيراً. 
غلبها النعاس وأغمضت عينيها وغابت في نوم عميق.

في اليوم التالي حضرت ابنتها نادية لتعد لها الفطور كعادتها كلّ يوم جمعة، وجَدَتها لا تزال نائمة، وصورة زوجها  القديمة المهترئة ملطخة بأحمر الشفاه على صدرها.