loader
MaskImg

السرد

يعنى بالسرد القصصي والروائي

ليلة بيضاء

breakLine

 

 

 

 

 


 

عبدالكريم جماعي/كاتب تونسي

 

 

(لم يكن في الامر سوء نية..او حيلة شيطانية.. فما وقع  في تلك الليلة..كان مفاجئا..أتت به فكرة جهنمية بريئة..وليدة اللحظة الصبيانية..بلا سابق اضمار..أو نيّة مبيّتة..لكنها كانت حركة من حركات الطيش..عفوية مثل حياتنا في تلك السن.. لم تخطر على بال أحد..وبلا ادنى  تفكير في عواقبها التي ربما تكون وخيمة..مثل أغلب افعالنا في تلك الطفولة البعيدة..حين كنا نحن الاطفال نتنافس في افتعال المقالب بروح ناصعة بريئة..لم تدنسها بعد دسائس الكبار و شرورهم..!
كنا نقضي أغلب اوقات السمر الصيفية -ونحن فتية- في ريفنا البسيط..بالقرب من ذلك الدكان الوحيد الذي يغلق أبوابه عند المغيب..فنلتقي كل ليلة للسهر على ضوء القمر..نتجاذب أطراف الحديث حينا او نطبخ الشاي و نلعب الورق احيانا اخرى..وكثيرا ما تحصل المشاحنات بيننا..لكنها لم تصل أبدا الى الخصام او الجفاء..بل كانت تنتهي بالصلح السريع..وحتى من يغادر منا مغتاظا او حزينا..يعود في الليلة القادمة في نفس الميعاد..او نبعث من يأتي به من بيته..مرغما أو راضيا..!
وفي احدى الليالي..تخلف ثلاثة شبان..عن الحضور في الموعد المحدد بعد صلاة العشاء..كلفوني بالذهاب الى منازلهم حتى يلتحقوا بمجلسنا كالمعتاد..و في الطريق حدث ما حدث..!
و الى حد هذه اللحظة.. حتى بعد مرور سنوات طوال على تلك الحادثة..مازالت تصيبني قشعريرة..يسيل معها العرق البارد..كلما تذكرتها..أو جالت بخاطري..!
كنت وقتها في مستهل مرحلة الشباب الغر..أبلغ من العمر حوالي ستة عشر..مندفعا..في كل شيء..راغبا في سبر أغوار الحياة..بكل ما تحتويه من اخطار و تقلبات..!
تركت شلة الانس تنتظر الغائبين عن مجلس السهرة..سرت باتجاه منازلهم..كان القمر بدرا..ونسائم الصيف تلطف الأجواء..اخترت طريقا مختصرا لربح الوقت..السكون يلف المكان لا يسمع فيه سوى نباح كلاب متقطع..حثثت الخطى في مسار ملتوٍ..يمر قرب المقبرة..لمحت من بعيد خيال ثلاثة أشخاص يسيرون الهوينى..قادمين نحوي..وقفت في مكاني بمحاذاة القبور لأتأكد منهم..صار صوتهم واضحا عندما اقتربوا..عرفت أنهم هم الذين كنت ذاهبا لأستحثهم على القدوم..وفجأة لمعت في ذهني حيلة طريفة..لاخافتهم..نظرت حولي بسرعة..وشرعت في تنفيذ ما خططت له..كنت أرتدي قميصا طويلا ابيض( هركة) كالذي يتم جلبه من بلاد الحج..رأيت انه مناسب جدا فهو تقريبا يشبه الكفن..لم اتردد..فكل شيء جاهز..ثوب ابيض و قبور و قمر بازغ..وفي هذا الليل...ستكون مفاجأة مضحكة ومدوّية..اخترت لحدا مطليا بالدهن الابيض قريبا من  مكان عبورهم للمكان..استلقيت على ظهري بكل ثقة..فوق القبر..بقيت في وضع ثابت بلا حراك..كنت اقاوم الضحكات التي في داخلي..وانتظر القادمين..حتى وصلوا..كانوا منهمكين في حديثهم..لم يروني..عندما شعرت انّ خطواتهم اصبحت بقربي..نهضت واقفا..لم أنبس بأي كلمة..لم أصدر اي صوت..فقط..قمت بالوقوف بسرعة..وانا اغالب القهقهة..التي تكاد تنفجر..في كل لحظة..و من هول المفاجأة..اطلقوا سيقانهم للريح..هرب كل منهم في الاتجاه الذي رآه مناسبا..للنجاة من شبح الميت الذي خرج لهم من القبور..!!)