loader
MaskImg

السرد

يعنى بالسرد القصصي والروائي

ما زلتُ جميلةً

breakLine

وليد بن أحمد / كاتب تونسي 
 
 
لا زلتُ جميلة، تردّدت الجملة في ذهني وأنا أغسل يديّ من دمه. ليس دمه ذلك الأحمر الذي ينزف من جرح بسيط عندما تعشق السكّين إصبعك عوض البصل. كان دمه بنفسجيا داكنا يميل إلى السّواد تفوح منه رائحة عطنة. كيف يمكن لسائل يحمل الحياة في طياته أن يزكم الأنوف؟  لا أدري لما لم يقبّلني. لما لم يلمس نهديّ. أتراه أدرك أن لي نهدا واحدا؟  أتراه عرف كنه شعري المستعار؟  أنا لا زلت جميلة،أعرف جيدا أنني لا زلت فاتنة رغم أني لم أنظر إلى نفسي في المرآةمنذ أسبوعين. أسبوعان قاسيان مرّا منذ غادرت المشفى. لم أقو على النظر في المرآة لمفردي. مزيج من الرهبة والحنق المكبوت عصفا بكياني ومنعاني التطلع إلى جمالي الأخاذ.  لو نجت أمي من قدرها لكانت تقف اليوم إلى جانبي تكشف الستار عن المرآة المشؤومة.
وحده حبيبي يدرك سر جمالي، فقد قرأت للمرة الثالثة عشر بطاقته الموضوعة بلباقة فوق باقة التوليب الساحرة التي أهدانيها وأنا بين يدي قدري على سرير الجراحة. ذبلت الورود لكن وردته الجميلة لن تذبل رغم كل شيء. لقد خط لي هذا على البطاقة. أقضَّت «رغم كل شيء" مضجعي طيلة أسبوعين. إلام يرمي حبيبي؟  
لم أنتظر خروجي من المشفى أو إشباع رغبتي المنحرفة بالتطلع إلى شكلي الجديد بقدر انتظاري ملاقاة حبيبي ورؤية طلعتي في عينيه. كم أشتاق إلى عينيه. كم أتحرق لتفسير "رغم كل شيء". منذ تعرفت إلى عدوّي الجديد، رفضت أن يراني حبيبي مكسورة القلاع. أسرّ لي أنه سينتظرني إلى آخر العمر. رسائله الحنونة أمرتني أياما وترجّتني أياما بالمقاومة. كم حاول إقناعي بكفاح المحتل وإجلائه عن ثغر جسدي المنهك والمغتصب كما قاوم أجدادي المستعمر الغاشم وأطردوه من أوطاننا الطاهرة. لم أكن أملك مدى شجاعته وسعةاطلاعه. كنت مستعدة للاستسلام والتعايش مع عدوي حتى يفني أحدنا الآخر. كثيرا ما اعترفت له بمرارة أن جسدي ليس أرض جهاد وأن صدري لا يمكن أن يتجاوز شرفه طهر القدس البتول بأية حال. 
كم يعشق حبيبي ضفائري القاتمة كليلة شتاء طويلة. قاطعت حصص العلاج الكيميائي من أجله. لهوت مع الموت كثيرا، لم يكن لنصبح أصدقاء لكنني عرفته عن قرب. انخفضت معدلاتي الحيوية ويأس الجميع من عنادي. لم يبقني حية سوى أملي. كنت أتتحسس فروة رأسي بأمل مزارع حرث وزرع وبقي ينتظر زخات الحياة. ذات يوم وأنا أنازع الفناء كتب لي حبيبي "عيشي من أجلي". من أجله قررت الخضوع للجراحة. من أجله فقط سمحت للحلفاء بالإنزال لطرد العدو. 
لهوت مع البواب، شغلته حتى لا يحفظ ما بدا شاذا من جسدي. لم أفتأ أدق بكعبي العالي على الأرض وأنا أحاول تشتيت ذهنه. بادرني وأنا أهم بدخول البناية 
"من أنتِ يا سيدتي؟" 
رمقت اسمه محفورا على بطاقة تتدلى علي صدره فأجبته 
"ألم تعد تعرفني يا عمّ ذاكر؟»
"اوه، اعذريني يا سيدتي أنت تعرفينني؟  لكن من أنت حقا؟»
"أنا زوجة الضابط». حدجني بنظرة بلهاء ثم سألني "أيهم يا سيدتي فالعمارة برمتها يقطنها الأطباء؟»
"أنت لم تتعرفني لأنني غبت طويلا».
"زوجة من أنت يا سيدتي؟»
"من عاد من الجبهة مظفرا هذه الأيام؟»
" انت أخت البروفيسور صامد إذن؟ هل علمت أنه أنقذ سيدة من براثن الموت؟»
"أعرف ذلك هو محارب عنيد. ثم انتظر فأنا زوجته»
"مستحيل. أنا اعرف زوجته. لقد أتت منذ يومين"                                                                                            
لا ادري كيف ذكرني الحارس بسطوة المال فاجتذبت من حقيبتي ورقة بخمسين دينارا مطوية بعناية وناولته إياها
"أرجوك أن تحضر لي قنينة عصير باردة واحتفظ بالباقي. ليس عليك أن تسرع. لديك كل الوقت»، ثم غمزته في جذل "سنحتفل بنجاح الضابط في العملية. ألم ينقذ احدهم من الموت؟ ألا يستحق هذا بعض المرح؟" 
ضرب ذاكر كفا بكف، حوقل ثم تنحى جانبا وانطلق يحضر مشترياتي. 
صعدت إلى البناية أتفرس صناديق البريد إلى أن عثرت على لافتةالدكتور صامد العماري، أستاذ بمستشفيات باريس سابقا اختصاص.. لم أقو علي قراءة الاختصاص فلي معه ذكريات مميتة. نعم لقد ذكر لي أنه سيحارب في باريس وأنا انتظر موعد معركتي. أستاذ ودكتور في سلاح الجو؟ فليكن. ضابط برتبة دكتور فحبيبي لامع بحق. انه يقطن بالطابق الثالث. تركت المصعد وارتقيت السلالم عنوة. شيء ما حدثني أن أصل لاهثة، مفترة الثغر، حمراء الوجنتين، شهية. لا بد أن لديه مرآة كبيرة. سويت فستاني الأسود الطويل ليلتصق بجسدي اكثر و اكثر. هممت بدق الجرس لكنني تذكرت هذيان الحارس. كيف يكون لحبيبي زوجة؟ كيف تجرأ ذاكر على ذلك؟ حتما لا يستحق اسمه. ثم كيف يكشف حبيبي عن أسرار الجبهة؟كيف عرف الحارس أن حبيبي انقذ امرأة من براثن الموت؟ 
تكاثفت الأسئلة في ذهني في غرابة. اختلط علي الأمر وأضعتأولوياتي. أنا قدمت لاكتشف جمالي في عيني صامد أم تراني جئت أساله عن باقة التوليب وعن أمله في نجاتي رغم كل شيء، أم أني سأسأله عن ألقابه الغريبة فأنى لضابط أن يكون أستاذا ودكتورا، أم لعلي سأحقق معه حول هذه الزوجة المزعومة؟ لم المس الجرس وإنماطرقت الباب في ضربات حانية. طرقت مرتين أو ثلاث ثم فتُح الباب واطل علي حبيبي صامد نحيفا في ملابس نوم يحمل منشفة على كتفيه، وقد خلت رأسه سوى من شعيرات مبعثرة هنا وهناك. كانيخفي شطر وجهه تحت نظارات سميكة. لا يمكن أن أخطئ حبيبي ثم أنا أتيت دون موعد لمفاجئته. سيتغير عندما يضع نياشينه وتلمعنجومه الذهبية علي كتفيه العريضتين. مهلا، ليست كتفاه عريضتين كما ينبغي. ثم كيف يضع ضابط مغوار نظارات سميكة كقارورة دواء؟ عيناه بدت لي غريبة وهو يحدق بي في بلاهة. كنت انتظر شوقا ولهفةفي عينيه. مدّ لي أصابع طويلة، شاحبة ومبللة. لم أشأ مصافحته وارتميت في أحضانه لينهال علي بالقبل. اذكر جيدا انه منحني وجنتين غائرتين. لعلها المفاجأة.                                                           
 "لم أتوقع زيارتك باكرا. أسبوعان فحسب مرّا على..."  
لم أُصغ إليه وأنا اكتشف شقة ضابط. هناك على الأريكة ميدعة بيضاء، وعلى الطاولة الكبيرة الوحيدة التي ملأت نصف الفضاء، حقيبة ملقاة بإهمال قد أطلت منها سماعة، ومحقن كبير وأقراصدواء. كيف ينقذ ضابط حياة سيدة بأقراص ومحقن؟ أين البنادق، أينالخراطيش، أين البدلة المثقلة نجوما؟ انتظرت طويلا حتي رفع صامد عينيه نحوي. لم يتطلع إلى عيني مباشرة وإنما أمطرني بوابل من الأسئلة كما يطلق المحارب المغوار رصاصه نحو العدو الغاشم.
"هل انت افضل حالا الآن؟"
أردت أن أجيب، «بوجودك يا حبيبي"، 
" تبدين بصحة جيدة."
واصلت في سرّي، «بفضل تشجيعك وحبك يا أملي».
"هل تأكلين جيدا؟ هل تنامين بعمق؟»
"شفتاي جميلتان؟ شكرا، لقد أخجلتني. اوه أنا لا أنام لأنني بانتظارك ».
"ماذا تشربين؟ أظن أن شايا خفيفا يناسبك.»
بدا حبيبي مضحكا ومحببا وهو يطرح أسئلة غبية جديرة بطبيب. جلت في أرجاء الشقة وهو ينهمك في إعداد الشاي. المزيد من علب الدواء هنا وهناك، ومحاقن كبيرة في كل مكان. لا بد أن الوضع في الجبهة حرج والحرب طاحنة. على الرفوف كتب كبيرة كلها تحمل أثداءفي عناوينها. يا لحبيبي الشبق. سيريني النجوم، والقمر إن لزم الأمر. هناك في الركن زوجان من الكعب العالي. لم افهم. صورة لحسناء بالأبيض والأسود. لم افهم بعد. على مقبض باب الغرفة المقابلة تتدلى حمالة نهود حمراء فاتنة. لم افهم لكنني جريت نحو المطبخ وصرخت،
"حمالة الصدر الحمراء ليست على مقاسي يا صامد. ثم انظر إلى نهدي ألا ترى شيئا مختلفا؟" 
لم ينظر إلى نهدي. ألم يشدّه نتوءهما غير المتناظر؟ الم يلاحظ شيئا. لم ينظر إلى شعري. لم يقبل شفتي. لعلها الحرب. لم تترك ويلاتها له شغفا بالحياة. وأنا التي ولدت من جديد. من يرعاني؟
"اعذريني. لم أجد علبة الشاي. حتما ستجدها ناهد حين تعود. لن تتأخر فالمستشفى قريب من هنا."
أطلت النظر إلى منديل طبخ زهري معلق وقلت متسائلة، 
"أختك ذوقها جميل. تحب الأحمر والزهري. لماذا تحتفظ بكتب مليئة أثداء؟ ثم لماذا سأظلّ جميلة رغم كل شيء؟»                                                                     
لم تحركني عبارة "زوجتي تعشق الأحمر" ولم تثرني مسألة احتياجه كتبا حول النهود في عمله. غرزت السكين الكبير في رقبته،ولوثت يديّ وفستاني الأسود بدمه الداكن وهو ما زال يتحدث عن شفقته بي يوم أنقذني من خطر نهدي البائس، وعن أمله في بقائي جميلة رغم كل شيء.  كان ينازع وهو يخبرني بأن حياتي الباقية معركة ضارية، فهو طبيب يعرف أن عدوي لا يزال يتربص بي. نعم مازلت فاتنة، وسأقاوم بمفردي لأن حبيبي ضابط يقاوم العدو بمحقن. أنا لست طاحونة هواء. 
في سيارة الأجرة التي تقلني إلى مخفر الشرطة، شنفت أذاني أغنية مصرية حانية يقول مطلعها في حزن،
«وسط تعبك وسط ألمك.. لسه عايشة حلمك… شوفي ثاني فيالمرايا.. شوفي نفسك أحلى أنثى. ما إنت لسه جميلة، لسه عايشة ولسه حاسة.. كل حاجة حلوة فيكي.. ولا فيكي حاجة ناقصة».