loader
MaskImg

السرد

يعنى بالسرد القصصي والروائي

مرآة بورخس

breakLine

 


علي كاظم داود/ ناقد وكاتب عراقي

 

كان كل شيء في غرفة الفندق طبيعياً، الأثاث والمفروشات والإضاءة، لكن المشكلة كانت في المرآة، كانت تعكس صور جميع الأشياء الجامدة في الغرفة، كل شيء كنت أراه فيها سواي! فعلى الرغم من أنها وضعت من أجل أن يرى النزلاء فيها أنفسهم، إلا أنني لم أكن أرى نفسي فيها!
كنت في سفرة، أسميتها طرافةً، عندما سألني مديري عن سبب تقديمي طلب إجازة سفر، برحلة البحث عن الذات. ضحك، ولم يرفض طلبي؛ بسبب علاقتي الوثيقة به. كنت أمرُّ بوقتٍ يكاد يكون عصيبًا، شعرت فيه بتشتت في الأفكار، وقلة في التركيز، ونسيان يكاد يصل حد الزهايمر. إضافة إلى وعكات صحية بين حين وآخر. كل ذلك أدى إلى تعكير دائم في مزاجي، وعصبية مفرطة. كما أن لقساوة الطقس في الصيف تأثير لا شك فيه. أدركت أن الحاجة إلى السفر باتت ملحّة؛ من أجل تبديد ضغوط العمل والحياة، واستعادة التوازن الداخلي، وتصفية الذهن، وربما التشافي من كل هذه العوارض والاضطرابات.
لم أسافر وحدي سابقًا، كان قرارًا غريبًا أن أسافر هذه المرة وحدي، ربما حسبت أن اصطحاب أحد ما معي، من الأصدقاء أو العائلة، سيجلب معه بعض أحاديث الواقع الذي أحاول الهروب منه مؤقتًا.
ركبت سيارة أجرة من العمارة إلى بغداد، ومنها إلى دهوك. صحيح أني لم أخرج من العراق، هذه المرة، إلا أني اخترت شمال العراق، وهذه المدينة بالتحديد لاختلاف لغة أهلها، ولأني لم أزرها قبل ذلك، وقدّرتُ أن طبيعتها الجبلية المغايرة تمامًا لطبيعة مدينتي الجنوبية شبه القاحلة، سيفعل فعله السحري، ويحقق لي ما أبتغيه.
لم أحجز شيئًا قبل وصولي إلى دهوك، ولم أخطط لشيء. صحيح أني لا أعرف اللغة الكردية، لكني أُدرك أن النقود هي اللغة التي يعرفها الناس جميعًا. لذلك ما دمت أحمل مالًا معي فإن الجميع سيفهمني، ويوصلني إلى غايتي. عندما وصلتُ كَراج المدينة عرض عدد من سائقي التكسيات إيصالي إلى حيث أريد، بعضهم كان يفهم اللغة العربية، قلت لهم أريد فندقًا نظيفًا وبسعر مناسب. كان أحدهم أكثر لطافةً وحماسًا لخدمتي من الباقين. ركبتُ معه فأخذني إلى فندق في وسط المدينة. عندما عرف أني من الجنوب، من مدينة العمارة، قال بلكنته العربية المضطربة أنه زار الأهوار، وركب المشحوف، وأكل السمك والسِّيّاح والطابكَـ عند صديق له يعرفه منذ أيام الخدمة العسكرية الإلزامية. ارتحت له كثيرًا فأخذت رقم نقاله لكي أتصل به إن أردتُ الذهاب إلى الأماكن السياحية في المدينة. قال إن اسمه آريان، ضحكت وقلت له إنه يشبه اسم عريان، قال صحيح، مثل اسم الشاعر الجنوبي عريان السيد خلف، ثم أسمعني بعض المقاطع التي يحفظها من شعره، رغم أنه لم يفهم كثيرًا من مفرداتها.
حجزتُ غرفةً في الطابق الثاني. عند دخولي لها لفت نظري مشهد الجبال من نافذتها. كانت هذه الجزئية من أهم تفاصيل سفرتي التي منحتني انطباعًا بأنها ستكون سفرة ناجحة. إذ بإمكاني الجلوس أسبوعًا كاملًا في الغرفة ولا أخرج منها، مكتفيًا بتأمل المنظر الذي تطل عليه، وهذا وحده كفيل بأن يبعث الراحة في نفسي.
لم ألتفت لمشكلة المرآة في اليوم الأول. إذ لم يبقَ منه سوى سويعات، أردت استثمارها في جولةٍ أستكشفُ بها المنطقة المحيطة بالفندق، فألقيتُ حقيبتي وخرجت. تمشيتُ في الشوارع والأسواق القريبة وتناولتُ العشاء في مطعم شعبي، ثم عدتُ إلى الفندق.
في الصباح لاحظتُ المشكلة، استيقظتُ ودخلتُ إلى الحمام، ثم أردتُ ترتيب شعري قبل الذهاب لتناول وجبة الفطور المجانية التي يقدمها الفندق لنزلائه، فلم أرَ شكلي في المرآة، حسبتُ أنها من أثار النوم، أو أني ما زلتُ أحلم، ففركتُ عينيَّ ودققتُ النظر، لم يتغير شيء. تحركت يمينًا ويسارًا فبدت لي أشياء الغرفة من حولي في المرآة. لمستها بيدي لأتأكد، فربما كانت شاشة عرض، أو مقلبًا كالمقالب التي نراها في برامج الكاميرة الخفية. تملكتني الحيرة وعزمت على إبلاغ موظفي الفندق عن الأمر. لكن المصادفة الغريبة الأخرى أنني انشغلت بتناول الفطور ونسيت أمرها. اتصلت بسائق التكسي مباشرةً بعد شرب الشاي، فلم يتأخر كثيرًا في الوصول.
عندما ركبت السيارة سألني آريان عن وجهتي، قلت له لا أعلم، خذني إلى أي مكان سياحي من اختيارك، المهم أن يكون جميلًا. في الطريق تذكرت المرآة، فحدثته عنها بصورة فكاهية؛ لكي لا يتهمني بالجنون، قلت له إني أتخيل نفسي أعيش الآن في واحدة من قصص خورخي لويس بورخيس، أو في رواية من روايات غابرييل غارسيا ماركيز. تعمدت ذكر الاسم الكامل لهما، وكما توقعت، هو لم يسمع بهذه الأسماء من قبل.
أخذني آريان إلى مصيف خلاب يقصده الناس للاستجمام، في قرية صغيرة اسمها برخ، بقضاء زاخو. لم ينقص المصيف شيئًا من مكونات الجمال التي نبحث عنها، نحن العرب، الماء والخضراء والوجه الحسن. كان يومًا استثنائيًا فيه، كما لو أنه برنامج علاج روحاني. شعرت هناك بأثقال كثيرة تنزاح عن كاهلي، ولمست خفةً غير معهودة في بدني.
عدت بصحبة آريان إلى الفندق عصرًا، دخلت الغرفة واتجهت مباشرةً إلى المرآة. لم يتغير شيء. كما لو أنها تتعمد أن تتجاهلني. كما لو أنها ابتلعتني دون أشياء الغرفة كلها. كان الأمر مخيفًا لوهلة، لكن سرعان ما تذكرت أن حياتنا في هذا البلد لم تعد مدهشة. كل شيء بات مألوفًا وعاديًا. لا شيء يدعو للاستغراب، ولا شيء يثير الفضول. أعني ذلك الفضول المعرفي والرغبة في الاكتشاف والتعرّف. وأحسب أن هكذا فضول، إذا رحل عن الفرد، فإنه لم يعد من الأحياء.
في مساء ذلك اليوم كانت الفضائيات ووسائل الإعلام ومواقع التواصل الاجتماعي تشتعل بردود الفعل الغاضبة على القصف التركي الذي استهدف مصيف برخ، وقتل عددًا من العراقيين السائحين هناك.

(كتبت في شهر آب ٢٠٢٢)