loader
MaskImg

السرد

يعنى بالسرد القصصي والروائي

مقطع أول من رواية "صديقي المترجم"

breakLine

خضير فليح الزيدي/ قاص وروائي عراقي

-1

طعم لاذع لرائحة الغياب

بغداد حي الدولعي والدار للبيع:
إبراهيم أنا محدّثكم من الطرف الآخر، والملقب بـ "برهوم". يطلق عليّ صديقي قاسم بـ "رجل الزجاج" فأضحك بانتشاء للوصف وشفافية المفردة، حين أرى نفسي بماء عينيه. لست خائفا من البوح لأقدم نفسي إليكم عاريا كشجرة خريف. نسيت أن أقول، أنا الجندي المكلّف إبراهيم مصطفى جيزان الجبوري من بغداد العاصمة، وتحديدا من مدينة الحرية في حي الدولعي. بيتنا يقع على أنف الشارع الرئيس. يستدلُّ إليه الأعمى بأنفه. خُطّت على حائطه الإسمنتي عبارة تتكرر كثيرا في أيام الحرب. كادت حروف كلمتي "الدار للبيع" تتلاشى بفعل لهب الشمس الحارق، والدار مازالت شاخصة. فكلما ينزعج أبي من نكد أمي يعيد تلميع العبارة الخالدة على مدى حياته. كانت العبارة مثل حل لإنقاذ أبي المفلس من الحلول، كي يتخلص من طنين أمي بإذنه، كطنين بعوضة في كهف الإذن، حتى أصيب المسكين بمرض السكري المزمن، ثم انفجر كبالونة طفل بعدما تجاوزت درجة السكري رقما قياسيا. لكنّ أمي لم تمت. هرمت كثيرا وتقوّست كشجرة معمرة من دون ثمر. مكثت تلمّع العبارة الخالدة بين حين وآخر، والدار لم يُبع.
ترعرعت في هذا البيت المتواضع، وهو القريب من مخازن الشاي الشهيرة، ولا رائحة لعطر الشاي تنبعث منها. قرب باب البيت شجرة سدر عملاقة تشبه بملامحها أمي، بقيت كعلامة حياة. يطلبن مفجوعات الحرب نذورهن من هذه الشجرة، ولا من يستجيب. لا يتحقق لهن ما يستحق الذكر، حتى غدت الشجرة علامة شائخة تذرق عليها الطيور الهاربة. تستدل المفجوعة إليها لقداستها وظلّها الوارف. يشربن نسوة الفجائع من ماء الكوز كسبيل دائم على روحي. 
بيتنا هو بيت الشهيد، وأبي الذي مات هو "أبو الشهيد"، بينما كان السكارى في آخر الليل يبولون على جذع المعمرة مشوهين قداستها. يلتحفون بقماشة لافتة الشهيد، ثم يرحلون في الظلام. لم يبق سوى صوت أحد السكارى يغني بأغنية حنين موجعة كأغنية "غريبة الروح.. أحن بليل. عطش في الماء.. يردّها المكابر... إلى آخر نشيد الفجيعة". يتوارى المخمور وفي أثره ظلّ الأغنية يتردد في الظلام.
نعم متُّ كأي محارب مخذول منذ زمن بعيد. درس بليغ علمتني إياه الحرب في بلدي، بأن الموتى الذين أعرفهم، هم أكثر من الأحياء الذين ألتقيتهم في حياتي. لذلك فالمعادلة لا تستقيم مطلقا. اقتلعتنا الحرب شابا إثر شاب، كمسامير من لوح خشب قديم. ثم قذفتنا في أعماق ظلام المتاهة. أذكر ذلك اليوم في الساعة والشهر والسنة. الموتى يحفظون تأريخ موتهم، ويهملون تأريخ ميلادهم، ولا غرابة أن يتحدثون فيما بعد. فشواهد التأريخ لا تحصى عن موتى يطوفون المدن بملابس مزّقتها الشظايا. يدخلون في آخر الليل غرف النوم ويوقظون النيام من دون استئذان، ثم يبوحون لهم عن لحظة الموت الرهيبة، كما يحدث الآن لمحدثكم برهوم. كنت آية من رميم زجاج العظام. نهضت لأطوف العالم من دون أن يراني أحد لشفافية ونقاء زجاجي. 
عندما دخلت بيتنا بعد سنين لم أجد أثرا قط لأهلي، ولا أثر لروائحهم الزكية، بل لا رائحة لأثر الشاي السيلاني، ولا رائحة لأمي تنبعث من خزانة ملابسها السود، ولا رائحة لصابونة الرقّي التي تستحم بها على رفّ الحمام في كل جمعة، ولا رائحة تطلق من أحلامهم قط. فلا الكوز كوزا ولا شجرة السدر، بل لا أثر يذكر من لافتة الدار للبيع، فعرفت أنهم ارتحلوا الى الغياب بكفة ميزان الصامتين.
هل جاءكم أحد من موتاكم الأعزاء في المنام؟ أقصد من ترتبطون معه بقربى أو حب أو ربما صداقة. قطعا لا يأتون إليكم بملابس بيض، فتلك أكذوبة رواة الأحلام ومفسريها. فالموتى عراة كما الحقائق، صدّقوني يا أحبتي. يأتون كأشباح ويغادرون كملائكة.
أنا كذلك، قريب جدا منكم. لم أمت كما خلق الله الجنود أجمعين ليميتهم، بل تستطيعون أن تقولوا عني، نصف ميت ونصف حي ليتحدث إليكم بما حدث، هذا هو صلب القضية. 
"طيب وماذا بعد؟ ماذا يعني نصف ميت ونصف حي؟ أوضحْ".
سؤال توقعته من حضراتكم. لأقول لكم بالحرف القاطع بالسكين: "كل ما في الأمر، إن نصف أعضائي دُفنت تحت التراب. قدم مبتورة، على يد مقطوعة تلوح بالفراغ، وبأصبع مقطوع، ورأس مهشّم، وعين منفردة خرجت من محجرها لترقص في الظلام. أعيش في النصف الآخر المتبقي طائرا بأجنحة الروح الخفية، كي تَرى ولا تُرى. نصف الحقيقة تحت التراب، والآخر سلّمته "تسليم اليد" لصديق الروح قاسم. 
"من قاسم هذا؟" فأقول لكم: "هو صديقي" فقط. 
لأني بصراحة متناهية أقدّس الصداقة. هي أعظم ما في هذا الكوكب الكئيب. أعدّت اكتشاف الصداقة ثم تمجيدها بأخلاقيات فذة لا تدانيها قيمة وضعية أخرى. كاد لها أن تكون اقوى من آصرة الحب الخفية. "الصحبة" فكرة عظيمة أهملها الناس في عصركم. هي الصداقة فقط، ولا أقصد الحب الذي تعرفون هنا. فالحب يحمل في نواته عنصري الملل والخيانة. يتسرّب كالماء من ثقب صغير لخزان مملوء، ثم يحين الافتراق بعد حين، بينما الصداقة متجددة وحيوية وباقية مثل راقصة باليه تلعب في مسرحها بعد انتهاء الفصل. هي السامية التي من أجلها تسمو الكائنات النبيلة. الصداقة بريئة والحب متهم بالمنفعة".