loader
MaskImg

السرد

يعنى بالسرد القصصي والروائي

من ضيّع هذا الولد؟

breakLine

 

 

هاني نديم - كاتب وشاعر سوري

بعد أكثر من ربع قرنٍ في الكتابة الصحافية، وبعد أطنانٍ من الورق أزهقناها تحبيراً وكتابةً؛ كلما جئت لأكتب لفظ "دمشق" أو "الشام" يقف قلبي وأفقد التنفس للحظة تماماً كما حدث حينما باغتني والدي وأنا أدخن وراء الحائط أول عمري.

الأمر لا يتعلق بالمشاعر والمحبة والذكريات وهيبة المدينة التي لا توصف. ثمة مساحة غامضة ما زلت أتتبعها حتى يومي هذا ولا أقبض عليها. غصةٌ حلوةٌ حلوة أتجرعها وأنا أتجوّل بخيالي في أزقتها وأمسّد بصمتي مفهوم "الوطن" وتراب الوطن الذي منه جبلنا وإليه نعود.

بيت جدي في حيّ "ركن الدين" بالقرب من قبّةٍ خضراء لا أعرف لمن. تذهب أمي إليها بين الحين والآخر ولا تأخذني دوماً رغم إلحاحي. أنا طفلٌ أكثر طاقةً من أن يتحملني أي مشوار. كنت من شوقي لأن أرى تلك القبة أحلم بها. حلمت بها مرات عدة، وفي كل مرة كنت أبكي لأني بعيد عنها. أصلاً؛ أنا أحلم دائماً، أحلم وأنا واقفٌ وأنا نائمٌ وأنا أنصت وأنا أمشي أو أسمع موسيقا أو شعر أو بكاء... في كل الأوقات أحلم إلا حين أتكلم. ربما لهذا أنا صامت صمت اليمام في المقابر، أصلاً أنا من سلالة لا تتكلم كثيراً كما أسلفت. لعلها كلها تحلم مثلي. على العموم؛ كل ما جرى معي رأيته في منامي بشكل أو بآخر، وهذا ما جعلني أكاد لا أستهجن أو أدهش في شيء وعلى شيء. ولمناماتي ثلاثة محاور: إما أنني أطير، أو أنني أقع، أو أنني أبكي، وذلك في سينوغرافيا مختلفة ومتباينة و"لوكيشنات" متعددة وغرائبية.

في مرةٍ اضطرت أمي أن أكون معها في زيارة القبّة الخضراء، تلك كانت المرة الوحيدة التي ذهبت معها. أضعتها وضعت في الزحام، أفلتّ من يدها، هربت كعادتي وذهبت لبائعي الحمام والعصافير و"البسطجية" حول المقام، عدت إلى القبة لم أجدها.. جلست أنتظرها عند الضريح الذي قرأت على رخامته: "الشيخ الأكبر محمد بن علي الحاتمي، المكنّى بأبي عبدالله محي الدين بن عربي" ولكنني نمت... نمت وحلمت أني أطير وأطير قبل أن توقظني أمي وهي تبكي... أفقت أكثر خفة وكأنني غير موجود. لم أشعر أبداً بالقرص والدعك والدحّ طوال الطريق. ولعلي ما زلت غير موجود حتى هذه اللحظة.

وظللت حتى شاب شعري، كلما وجدت فرصةً أذهب لأقرأ تلك الشاهدة: "الشيخ الأكبر محمد بن علي الحاتمي، المكنّى بأبي عبدالله محي الدين بن عربي" كي أتأكد أنها موجودة، تماماً كما يتلمس الأعمى جدار داره. أذهب لأراها وكأنني أخاف أن يطير شيخنا الأكبر كعادته ويترك الشام...

من ضيّع هذا الولد
كفّ أمه المعروقة أم سود الملاءات قرب قبر صاحب الفتوح؟
كنت وحدي.. 
بوجهٍ غير مستدير تماماً
وكنزتي الخضراء!