loader
MaskImg

السرد

يعنى بالسرد القصصي والروائي

هاتف الخامسة صباحاً

breakLine

 

أيمن معروف/ شاعر و كاتب سوري

                                                                        
 كان دائماً يتّصلُ بي. يتّصلُ لسببٍ أو دون سببٍ. يتّصلُ في الخامسة صباحاً منْ كلِّ يوم، ودون مقدّمات ودون اعتذارٍ عن اتّصاله في هذا الوقتِ المبكرِ والمُحرِجِ، يقولُ لي: 


- أيمن. أينَ أنتَ. أريدُ أنْ أراك.

 

 لم أكن أستغربُ اتّصاله في هذا الوقت بعد أن اعتدتُ على ذلك منه وصارَ بمثابةِ العادةِ اليوميّةِ عندهُ والمنبّه الدّائمِ عندي. ما كنتُ أستغربُه، فعلاً، هو سؤاله المستمرّ والمباشر لي في هذه السّاعة المبكرةِ من الصّباح: أين أنت!!. أيمن أينَ أنت؟!. وببساطةٍ شديدةٍ وبكلامٍ ممهورٍ بآثار النّوم وشيءٍ من الغضب، كنت أقول له: أين سأكون في هذه السّاعة يا رجل. طبعاً في البيت. أليس هذا الرقم الّذي تتّصل عليه هو رقم البيت. قلْ لي ماذا تريد.

 كان يصمتُ، قليلاً. يصمتُ، وكأنّي به يلتفتُ إلى ساعته ويعتذر عن اتّصاله في هذا الوقت ما بين آناء اللّيل وأطراف النّهار. ثمّ يقطعُ صمته، ويكتفي بالقولِ،: - أريد أنْ أراك.

 

 المرّة الوحيدة الّتي لبّيْتُ فيها نداءه وكنتُ عنده على وجه السّرعة في هذا الوقت المبكر كانتْ هي المرّة الأولى لرنين هاتفه الصّباحيّ، وقد كنتُ أعتقدُ يومها أنّ أمراً ما قد حدث، وإلاّ لمَ يتّصل شخصٌ ما في هكذا ساعة لو لم يكنْ في أمر محرجٍ دعاه إلى ذلك.


                                   •••
 توقّفَ هاتفُ الصّباحِ هذا اليوم عن عادةِ الرّنينِ في الوقتِ المحدّد من كلِّ يومٍ في الخامسةِ صباحاً. ارتبكتُ، وانتابتني أحاسيس شتّى لا أعرفُ تفسيرها، وقلتُ بيني وبين نفسي،: (مالَهُ ذلكَ الهاتفُ الآنَ في صمتِهِ لا يرنُّ؟!.).

 

 انتظرت برهةً منَ الوقتِ وأنا أتطلّعُ في ساعةِ الحائطِ المركونةِ على الجدار وهي تَدقُّ دقّاتٍ خفيفةً وتخترقُ لحمَ الوقتِ وأسدافَ العتمةِ وتواصلُ عملَها لتشقَّ جَهْجَهَةُ الفجرِ طريقَها إلى الصّباح. كانت السّاعةُ تُشيرُ إلى السّادسةِ إلاّ ربعاً، تقريباً، حينَ بدأتْ دقّاتُ قلبي تضطربُ وتتناقصُ وتخترقُ هي الأخرى دَغْلَ الوقتِ. فقلتُ في نفسي حينها،: - إذاً. سأتّصلُ أنا بهِ.

 

 رفعتُ سمّاعةَ الهاتف بارتعاشٍ وخوفٍ كبيرين. كنتُ متردِّداً وحائراً بينَ أنْ أُقيمَ اتّصالي هذا أمْ لا. بيدَ أنّي اتّخذتُ قراراً مباغتاً وسريعاً بأنْ أقومَ بالاتّصال. وكانَ ما كانَ وأنا أنتظرُ مَنْ يردَّ في الجانبِ الأخرِ على هاتفي الصّباحيِّ وأسمع ذلك الصّوتَ البعيد الّذي اعتدتُ على سماعِهِ في الخامسةِ صباحاً منْ كلِّ يوم. غيرَ أنّه ما منْ أحدٍ على الطّرفِ الآخرِ كانَ ليجيب.

 

 عاودتُ الاتّصالَ مرّةً ثانيةً وثالثةً، ولا أحد. ازداد خوفي واشتدَّ ارتباكي وتلبّدتْ غيومُ الحيرةِ في رأسي مختلطةً بمشاعر غريبةٍ تلفُّ كاملَ جسدي. اضطربتُ وجفّ حلقي. تناولتُ قليلاً منَ الماءِ على الرّيقِ، ثُمَّ فكّرتُ قليلاً، وقلتُ،: ربّما تأخّر صديقي مساءَ البارحةِ في سهرِهِ وما زال نائماً. 
 وضعتُ سمّاعةَ الهاتفِ جانباً، وجلستُ على كرسيٍّ قرب البابِ شارداً في اللّاشيء. أحسستُ بالبردِ يخترقُ أوصالي جميعها فاتّجهتُ إلى سريري في غرفةِ النّوم. سبقتني إلى هناك عشراتُ الهواجس وهي تأتي وتذهبُ وتأخذني في كلِّ اتّجاه. وما بينَ انشغالي وارتباكي ودفءِ الفراش وبرد الخارج استسلمتُ، أخيراً، للنّومِ، وغفوتُ. 


                                  •••
استيقظتُ متأخّراً. في تمامِ العاشرة أو العاشرةِ وخمس دقائق، تحديداً، استيقظتُ. حمتُ ودرتُ في غرفتي لا أعرفُ ماذا أفعلُ أو ما يمكنُ أنْ أفعلَهُ. أخذتُ حمّاماً ساخناً وارتديتُ ملابسي، وخرجتُ. كانَ يوماً ماطراً. السّماءُ تبرقُ وترعدُ والعواصفُ تحتدُّ وتشتدُّ والرّياحُ القويّةُ تضربُ في كلِّ اتّجاهٍ. تردّدتُ على البابِ في الخروجِ. لكنَّ أمراً ما في داخلي لا أعرفُ مصدره أو أسبابه دفعني كيْ أفتحَ البابَ وأكملَ سيري، وأخرج. وفي الطّريقِ وعلى بُعدٍ أمتارٍ قليلةٍ منَ البيتِ، كانت المفاجأةُ الحزينةُ: ورقةٌ نَعيِ صديقي صاحبِ هاتفِ الخامسة صباحاً، .. فبكيت.