loader
MaskImg

السرد

يعنى بالسرد القصصي والروائي

هو وحدهُ

breakLine

                    

أحمد خلف || قاص عراقي


                                                                                                                                                  تكررت الطرقات الخفيفة المتسارعة على باب البيت كما يحدث مساء كل يوم او عند حلول الليل ومرات في منتصفه  , وبدرجة شبه متفق عليها بيني وبين امي الضريرة في تعاملنا معها من الاهمال واللامبالاة بحيث كنا ننساها لأننا كنا منشغلين بما آلت اليه الامورمن حولنا من خراب وتعاسات وهو لم يكن بحاجة لنا بل كنا نحن كلنا بحاجة له , وظل اعتقاد امي الضريرة به قويا لا يتزعزع ابدا ,  في ساعات كثيرة وطويلة كانت تناجيه بصبر لا مثيل له , وغالبا ما كانت تستيقظ من نومتها القصيرة على صوت الطرقات المتسارعه , الخفيفة كالهمس المطمئن لحالته في ارسال الطرقات كبرقيات لم تُرسل الينا نحن الفقراء منذ زمن بعيد  , وكان من الصعب عليَ ان اقنعها بان لا جدوى من انتظارها المضني لكنها كانت تصر على ان تفكيري قد اصاب العطب جوانب كثيرة منه ولم انتبه الى ما حل بعقلي , كنت اضحك بقوة ومن اعماقي السحيقة على فكرتها القاسيه عنه وعني , كانت الضحكة تشجعها على المضي في تعنيفي وتحريك مكامن مودتي لها وهي تعلم تماما اني لن اتخلى عنها مهما كان حكم الزمن , فهي امي التي ينبغي لي رعايتها بعد ذلك التعب المشهود لها برعايتي في الايام الخوالي قبل ان تفقد النور من عينيها شيئا فشيئا وعلى مر الايام المرهقة التي مرت علينا كلنا ... غايتي ان ارضيها واجلب السعادة الى قلبها الضعيف المعطوب كما تسميه هي حين تريد الاعتماد عليه في الملمات والشدائد , لن اتوانى عن اسعافها حالما تناديني او تنتظرالعون مني , فهي امي الضريرة التي فقدت نظرها بالتدريج حتى وقفت ذات يوم في ساحة الدار معلنة  بصوت ملتاع عن عماها المطبق وهي تصرخ بنا : -- الان انتهت لعبة الحظ معي يا اولاد , انا امكم لا ارى ما موجود امامي ولا ما هو خلفي وكل ما يتحرك حولي اصبح بعيدا عني لقد اصبحت عديمة النفع لأني ما عدت ارى شيئا ابدا .
     نهضتُ متجها نحو الباب في تلك الساعة المتأخرة من الليل , لكي افتحها , في بداية الامر مدت يدها الى يدي وضغطت على الرسغ بقوة , هزت راسها واشارت علي الا اذهب الى الباب لأفتحها لأني كنت غاضبا جدا من تلك الطرقات .. في البدء حذرتني الا اتورط معه فهو كثيرا ما يبدو مهموما لا يكن للاخرين اي اهتمام او مراعاة لحقوقهم المغدورة وهو يعلم بها علم اليقين وحتى لو وجدهم يدفعون الثمن باهظا مراعاةً منهم لاحقيته بالاحترام والتقديس , فالتبجيل واجب في حضرته وهو مقدس عند الاخرين حتى اولئك الذين لا نعرفهم معرفة تليق به كما تليق بهم وعدم اهتمامه بنا نابع من معرفته الى اين ستنتهي الامور بنا جميعا  .. أصرّت امي الضريرة على ملاقاته بكل السبل وكذلك الاستعداد للاستماع الى ما يشير به عليها , حتى لو لم نأخذ بكلامه مأخذا يوازي مأساتنا التي يعرفها معرفته لنا , كان ما يؤلمها هو ان الفقراء من امثالنا يزدادون فقراً وتعاسةً بينماالاغنياء يزدادون ثراءاّ وهو ينظر ويبتسم ولا يعقب على فحشائهم بشيء , اي الخطط كان ينوي ان يهيئها للانقضاض على الفحشاء المستشرية في هذه الانحاء الدائرة من حولنا  ؟ ..  انا لا اعرفه معرفة اكيدة فقد ملأت امي راسي بالكثير من الحكايات عنه دون رؤيتي له ولم يحصل ان تحدثت اليه مباشرة بل هناك من معارفي من أكد اعجابه بي على اساس اننا نعمل في حقل متجانس عملا ماديا ملموسا لا تشوبه اي شائبة او نكران من الاخرين المتطفلين او المتبطرين , قالوا انه غالبا ما تحدث عني بأسهاب بحيث يستولي الملل على سامعيه من كثرة الاطراء والتبجيل ,وربما هذا الذي يقوله البعض عني وعنه مثار غيرتهم مني وحسدهم لي لتقربي من عطاياه السرية التي حدثتني امي عنها حين كنت صغيرا غض الاهاب كما يقال عادة عن اولئك الفتيان الاشداء الذين لايتوانون عن بذل المزيد من التفاني والتضحية من اجل رعاية الام الضريرة والاب الذي راح ضحية احد التفجيرات الشريرة , مات ابي في تلك الايام العسيرة على الهضم والاستيعاب , وبقيت امي الضريرة تتوعد الايام الاتية بالانتقام المفاجيء من كل ما حملته لنا من ضيم ومحن  ..  لم يكن هذا الذي اسمعه من الاخرين ليغريني او يكون سببا بانتفاخ اوداجي , بل قل العكس من ذلك كله اني كنت امتعض من اهماله لنا عمدا و بتخطيط مسبق   , اعني اطراءه لي الذي يكلفه مشقة الكلام بشان مكانتي المفترضه , وهي مكانه لا غبار على اهميتها لديه وليس هذا وحده ما اثار انتباهي او اهتمامي بشأن الاقاويل التي تجرأت على نفيه من الوجود كلية ولا انكر ان هذا اثار خفيظتي وسخط السيدة الضريرة حين تجرأ احدهم وبثها نتفا من معتقدات اكل الدهر عليها وشرب , ومع هذا كنت اكثر هدوءاً مما توقعت , حين ارادت امي الضريرة النهوض على قدميها للذهاب الى الباب لكي تفتحه هي لطارقه في هذه الساعه المتأخرة من الليل معتمدة على عصاها , غير اني منعتها من مغادرة مكانها الدافئ في زاويتها التي خصصتها لنفسها بقناعه مطلقة وراحت منذ ذلك اليوم الذي اعتبرت تلك الزاوية او الركن من البيت حصتها ولا يجوز لأحد اي احد ان يستولي عليها , ارادت النهوض بعد تلاشي الطرقات السريعة المرتبكه بعض الشيء , منعتها بيدي وبرفق :
-- انا ساذهب يا أمي لأفتح الباب ..          
       رأيتها تقعي في الركن ذاك ولم تبدي مقاومة ملموسه ,   للذهاب الى الباب لكي تفتحه لتعرف من الطارق , اردت ان اذكّرها انها لا تستطيع ان تختزل الامور بحركة واحدة وحتما ستعرف معنى ذلك المرمى الذي اقصده وتلك الغاية التي اهدف اليها من اشارتي بخصوص عدم تمكنها من اختزال المعنى ومعرفة الطارق , بالسهوله التي تفترضها امي الضريرة , ويبدو كلامي الاخير معها اثنى رغبتها في اعتمادها على عصاها والاتكاء عليها للذهاب الى الباب لتفتحه للطارق , جلست في ركنها الصغير ولم تتزحزح منه اول الامر ولم تبدي رغبة في فعل اي شيء يمكنها القيام به امرأه عجوز وضريرة , ولكن ما اثار عجبي انها استندت ثانية على عصاها حالما ادركت اصراري على فتح الباب مهما كلفني الامر من مشقة , وجدتها تتبعني في حركتي , ولما اعترضت على همتها في تسلق خطواتها المتعبة , قالت في الحال : اخاف عليك من اي طاريء يا ولدي كيف اسمح لنفسي ان ادعك تتجه نحو المجهول ؟ الا ترى الليل كيف تزأر الريح في اعطافه وثناياه ؟ والظلام تزداد حلكته ؟
قلت لها : --- لقد اخفتني ياأمي الطيبة بكلامك
           عن الليل والظلام ؟ 
-- كلا انا لا اخيفك بل انت خائف مما يجري من حولنا ..   
           رغم ذلك نهضتُ متجهاً  نحو الباب منتظراً  عودة الطرق عليه مرة اخرى لكي افتحه , وحالما توجهتُ الى هناك نهضت امي الضريرة معي حالا , قالت انها لن تتركني اذهب وحدي بل ستكون معي في الليل والنهار , تلك اللحظة سمعنا معا صوتا خافتا يتردد بطرقات متسارعة , اتجهنا نحو الباب لنفتحه , خطت امي امامي اول الامر خطوتين اثنتين  , مالبثت ان تقدمتها نحو الخارج ,بخطوات ثلاث , امسكت بأكرة الباب وادرتها بقوة لكي اسحبها , حالا فتحتهُ على مصراعيه , اصغت امي بكل جوارحها لكي تسمع اي شيء وقد شاركتها الاصغاء والترقب لأية حركة تأتي من الخارج , لم يكن ثمة احد هناك غير الليل والريح تعول في الطرقات .